عبد الجليل سليمان

تونس على خطى بريطانيا


يهتم ميشيل فوكو عِوضًا عن سؤال السلطة المعتاد، أي ما يسمى بـ (المركزي)، بالسؤال عن كيفية التي بها انبجاسها إلى الوجود، فلا وجود السلطة إلا وهي ممارسة، من هنا أطاح فوكو مُسلّمة أنّ السلطة شيءٌ قابلٌ للتّملك، وأنّها ترتبط بالدولة والقوانين كما هو الحال مع المنزع الليبرالي أو المنظور الطبقي الماركسي، وعليه فإن جوهر نظرية (فوكو) للسلطة، تشتغل جاهدة ومثابرة على تحديدها؛ وكشف آلياتها وآثارها وعلاقاتها داخل المجتمع.
يقول محمد أمين بن جيلالي، في مقال مطوّل وشامل، تحت عنوان “ميشيل فوكو وسؤال السلطة – من الاختزال إلى التشظي: نحو فينومينولوجيا تأويلية للسلطة وإضافة المُفكرْ به في السياسة” من هنا، أي من نظرية فوكو، أصبح الحديث عن (مِيكرُو السلطة) الذي يجعلها حاضرة حتّى في أكثر الأشكال هامشيةً. إنّ السلطة بهذا المعنى لا تنضبط بما هو سياسي، بل تتجاوز حيّز السياسي وتخومه باستمرار.
وميكرو السلطة هي تلك المقاييس الصغيرة التي تحتفي بالتفاصيل الدقيقة الناتجة عن عمل السلطة المركزية (الكبرى)، الحاكمة، وترصد اشتغالها على المجتمع وتفاعله معها سلبًا أو ايجابًا، تلك السلطات الصغيرة تتراكم تفاصيلها وتتجمع، فتصبح ككتلة لهب تدور في محور مستقل عن السلطة السياسية الحاكمة وضوابطها، وتظل تقترب منها باستمرار إلى أن تصطدم بها فإما تحترق وهذا نادرًا ما يحدث، أو تحرقها وتطيحها، وهذه هي شبه الحتمية لعمل هذه الميكانيزمات على تخوم السياسة.
والحال، أن تصويت الشعب البريطاني لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، يمثل نموذجًا ساطعًا وباهرًا لنظرية انتصار السلطات الصغرى/ الهامشية وتمردها على ماهو (سياسي) مخطط له من قبل السلطة المركزية، هذا بالطبع يتحقق في الديمقراطيات بدرجة أكبر وبشكل ناعم ومرن، لكنه يتحقق أيضًا في الديكتاوريات بأشكال عنيفة (هبات وانتفاضات وثورات) شعبية ربما تفضي إلى حالات من الفوضى العارمة.
بريطانيا، رغم علاقاتها الاقتصادية الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، فضلت الخروج منه، حينها أعلن ديفيد كاميرون أنه سيستقيل من منصبه بحلول أكتوبر القادم. وقال إنه أبلغ الملكة بهذا الأمر، بقوله “لا أعتقد أنه سيكون من الملائم أن أمسك بدفة قيادة البلاد إلى وجهتها المقبلة”.
بطبيعة الحال، لايمكن أن يمر حدثًا متفجرًا وكبيرًا مثل ذلك، دونما تأثير على العالم كله، وفي سياق (الميكرو سلطات) تطرح الشعوب الأخرى التجربة البريطانية للجدل والحوار وربما الاستلهام والاحتذاء، إذ سرعان ما تلقفها ناشطون تونسيون دعوا إلى استفتائهم حول الخروج أو البقاء ضمن منظومة جامعة الدول العربية أسوة بالبريطانيين، وعدَّ الناشطون (التوانسة) أن لا أحد استشارهم حين إلحاق بلادهم بمنظومة إقليمية لا يجدون منها على المستوى السياسي والاستراتيجي غير الأوجاع والانكسارات والخذلان، ولا رفاهية وازدهارًا على المستوى الاقتصادي، ولا ثقافة وفكرًا على المستوى الإنساني، بحسب تعبيرهم، إذ رأى الناشط التونسي كريم ولد سعيد، دعوة الخروج من الجامعة العربية تأتي لجهة أن المنظومة هذه مبنية على أساس فاسد وصفها بأنها مجرد مجموعة دول تنحر الأعضاء فيها، وإنها لا تسعى للوحدة بل تكرس الصراع الطائفي والمذهبي والإثني والديني بين مكوناتها، وإن على تونس أن تقلع عنها حتى تتمكن من محاربة الفقر والبطالة وتحقق مصالحها وتحافظ على ديمقراطيتها الناشئة.
هكذا تبتدر ميكانيزمات الميكرو – سلطة، علمها، رويدًا رويدًا خارج مركزية السياسة، ثم يشتعل كل شيء ويتحقق الهدف، فهل تبتدر تونس الخروج من الجامعة العربية عبر استفتاء شعبي كونها الديمقراطية الوحيدة القادرة على ذلك، كما ابتدرت ما يعرف بثورات الربيع العربي، واستطاعت أن تحافظ على مكتسباتها إلى اللحظة، هذا ما ستجيب عنه السنوات القادمات.