الطاهر ساتي

ومن المآسي ..!!


:: (المفقود )، كلمات صلاح محمد عبد الرحمن، غناء محمد النصري، إحدى روائع دار شايق التي تعكس بعض أوجاع المجتمع السوداني بصدق وعمق .. (المفقود)، أغنية تحكي عن إحدى مآسي حرب الجنوب وتسرد المآساة بالدم والدموع .. أحمد، سافر إلى الجنوب (مقاتلاً)، تاركاً زوجته آمونة وأولادهما، ولم يعد.. مر العام، ثم الآخر، والثالث والرابع، ولم يعد أحمد.. فأحتسبوه شهيداً، وتكفل شقيقه بأسرته و عقد قرانه على آمونة .. و ذات يوم، يطرق أحدهم الباب، وتخرج آمونة وتتفاجأ بأن الطارق زوجها السابق أحمد..!!

:: (كانت صدمة قاسية فوق الإحتمال)، كما يقول نص الأغنية .. (ﺇﺧﺘﻞّ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﻛﺎﻥ ﺁﺧﺮ ﺳﺆﺍﻝ/ ﻫﺴﻊ ﻳﺎﺗﻮ ﻓﻴﻬﻢ ﻳﺎ ﺧﻠﻖ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﺎﺩ؟/ ﺃﻭ ﻋﺎﺩ ﻳﺎﺕ ﻣﺼﻴﺮ ﻟﻰّ ﻭﻟﻠﻮﻻﺩ ؟).. و في عام نيفاشا، عندما تقدمت المفاوضات وتجاوزت بعض الخلافات العالقة، قررت الحركة الشعبية إطلاق سراح الأسرى، وقالت إحدى الصحف في خبرها الرئيسي ( عودة شهيد أبكى الناس جميعاً)، عادت روح الأمل والتوجس لآلاف الأسر السودانية التي إحتسبت رهطاً من الشهداء..!!

:: ولكن لحظة دخول الأسرى إلى أسرهم بعد سنوات الغياب، لم تكن (فرحاً خالصاً) في كل الأسر.. هناك من دخل إلى داره وأسرته لم يجدها (كما تركها)، أي فيهم من فقد زوجته و هي أمامه، ليفقد الحية وهو على قيد الحياة .. إنها مآسي الحرب، ولا يتذوق حنظلها إلا أصحاب الوجع ..ومنذ أسابيع، تكتب المواقع الإلكترونية – بشماتة – عن فقيد إحتسبوه (شهيداً)، ثم ظهر مع الأسرى..وكان أحدهم – من المتنطعين طبعاً – قد أكد إستشهاد هذا المفقود وأنه دفنه بيديه وكان مبتسماً وتفوح من جسده رائحة المسك، أو كما قال في ليلة (عرس الشهيد).. !!

:: وللأسف، هذا القول الكاذب هو ما يشغل الناس حالياً بحيث صار (محور النقاش)، وكأنها الكذبة الأولى في تاريخ الحرب والسلام والسياسة في بلادنا.. فالذاكرة تكاد تنسى بأن تاريخ الحرب في بلادنا – ومؤرشف في إرشيف التلفزيون- يضج بكل ما هو (غريب على العقل).. وكل هذا لا لشئ، إلا لترسيخ ثقافة الحرب في أفراد المجتمع، لتظل أرض السياسة وساستها ( آمنة) ..فالسياسي يُشعلها ب (إسم الله) أو (اسم الوطن) أو (اسم الحرية).. لا تغلبهم الشعارات ..!!

:: ولكن لا يصطلي بنارها، ولا يكتوي بآثارها، إلا من خاضها ثم المجتمع.. والعقيد حسن الجوني، لبناني، يشارك في حرب أهلية في بلاده، ثم يعود ويلخصها في أسطر، منها : (هي الحرب ايها الذين لم تعيشوها يومًا، ولم تعرفوها، فتستسهلون التعاطي معها، والتهديد بها عند كل مفترق، وتتناولونها ببساطة غبية كأنها مجرد عاصفةٍ ثلجية..هي الحربُ حيث يبدأ بإسم الإيمان من أجل مصالح أخرى مخبأة خلف الشعار، وشعارٌ يواجه شعارًا حتى يسقط آخرُ حجرٍ من الدار)..وعليه، بدلا عن الشماتة على المآسي، كافحوا روح الحرب على مستوى الأسرة والمجتمع (بالوعي)، بحيث لا تكون الأجيال القادمة أيضاً بنادقاً في أيدي ( الساسة)..!!