رأي ومقالات

حكايات القرى المألوفة والأساطير وحكايات عن الجن وتأويلاتها البعيدة.. ذكرى كتابة القرية


** هذا الشهر، يمر بالضبط ثلاثون عاماً على ما كنت أسميه، في تلك الأيام: عثوري على ضالتي، والآن أسميه: التهور الكبير، حين توقفت عن كتابة القصيدة فجأة، وأنجزت أول أعمالي السردية، رواية )كرمكول والحصانة القروية(، تلك الرواية الصغيرة المكثفة، المملوءة شعرا.
* كان ذلك عام 1986، وكنت طالبا في مصر، وقد تعرفت على سكك المقاهي، حيث يجلس المبدعون، والقراء اللصيقون بالإبداع، وأيضا يجلس أشخاص لم أعرف لهم هوية حتى الآن، فلم يكونوا كتابا ولا شعراء ولا نقادا، ولا بدوا لي قراء حقيقيين، ذلك أنهم لم يناقشوا أحدا فيما كتبه قط. كنت أقيم في مدينة طنطا، على مسافة ساعة وربع الساعة من القاهرة، ثم حوالي ساعة أخرى عبر زحام ميدان رمسيس، إلى وسط البلد، مستخدما القدمين، لعدم توفر إمكانيات استخدام سيارات الأجرة، كثيرا أو قليلا تلك الأيام، كنت آتي مرة أو مرتين أسبوعيا، أحمل قصائدي التي كنت أكتبها باستمرار، أكتبها في أي ورقة أجدها وأحيانا داخل المراجع العلمية، وآتي لأسمعها لأشخاص أثق في إبداعهم.
(1)
كان ذلك مرهقا جدا، لكن وعبر الأزمنة كلها، لم يعرف الإبداع أو لم يوصف إلا بالشقاء الذي يستعذبه من علق بتلك السكة، ومعروف أنها سكة تظل دائما غير مستوية، وأحيانا تقود إلى الفناء. كنت مغرما إذن، وصادقت الشعراء خاصة، أسمع ما أبدعوه، وأسعى للحصول على دواوينهم، وأعمال أخرى كانوا يستوحون منها، مثل كتب التراث، و»المواقف والمخاطبات» للنفري، وأسمع من يقول لي دائما بأن الوقت قد حان لأنشر ديوانا يخصني، ولم يكن ثمة طريقة لنشر الشعر، حتى في ذلك الوقت، حين كان ما يزال جيدا ومرغوبا. لسبب بسيط، هو أن دور النشر كانت قليلة للغاية، ولا تنشر إلا لشعراء وكتاب يملكون سيرا حسنة في درب الكتابة، ولهم قراء يتابعونهم، وكنت بالطبع بلا أي سيرة، ولا يعرفني إلا مرتادو مقاهي نصف البلد، بحكم وجودي المكثف. وقد كانت هناك كما أذكر مكتبة توزع ما تنتجه الشؤون الثقافية العراقية، بمبالغ زهيدة للغاية، وكانت بحق، هي المتكأ الذي اتكأت عليه، وأنا أتزود من كتب الشعر، ونقد الشعر، والمجلات التي تهتم بنشر الشعر، ودراسته.
(2)
لم أكن أتوقع أنني سأكتب عملا سرديا قط، وكانت مفاجأة لي شخصيا، حين جلست في أحد أيام شهر يونيو ، وبالتحديد، الثالث والعشرين، وبعد منتصف الليل، أكتب شيئا من الحكي، كتبت عدة صفحات، عن القرية التي ولدت فيها، صفحات من أيام الخبرة الأولى كما أسميها، حيث يجلس الشخص ليكتب لأول مرة، فلا تأتيه النجاحات والهزائم، التي حققها أو انتكس بها لاحقا، وإنما شذرات من أيام الطفولة التي انجرح فيها بحجر، أو سقط من حائط طيني، أو راقته عينان جميلتان لفتاة قروية، كان يشاهدها في ماضي القرية البعيد. وعلى الرغم من أنني عشت سنوات طفولتي وصباي المبكر كلها، في مدينة بورتسودان الساحلية، إلا أن أسرتنا كانت تذهب سنويا للقرية، نقضي إجازة الصيف كلها، ونتحول خلالها إلى قرويين حقيقيين، برؤوس حليقة، وأثواب بلدية قصيرة، نأكل الخبز الأسود المر، وأقراص القمح، المعطونة في الحليب، ونركب الحمير للنزهة، ونعمل الفخاخ لصيد العصافير.
(3)
كنت أكتب وتأتيني تلك المفردات بلا أي استدعاء قسري، ومعها تأتي حكايات القرى المألوفة التي لا يمكن تجاهلها لكل من يستوحي من تلك البيئات، من أساطير، وحكايات عن الجن، وتأويل لأي حدث بتأويلات بعيدة لكنها مقبولة هناك.
تركت أوراقي عدة أيام، وعدت مرة أخرى لأضيف إليها، ما يمكن أن يكون بهارا من بهارات القرى التي ذكرتها، وشيئا فشيئا، جاءت شخصيات: فتاح السمح، ونعمات المدرسة، وعبد الله كارا، مؤذن المسجد الذي لم يكن يملك مشية خاصة به، ولكنه يستعير مشيات الآخرين، حين لا يستخدمونها أثناء النوم، أو الاستجمام أو السباحة في النيل.
(4)
شهر تقريبا، أكتب بشكل شبه يومي، وبعد منتصف الليل، وأحاول العثور على حكاية واحدة تشترك فيها كل تلك الشخصيات التي كتبتها، ولا أعثر بسهولة، لم تكن هناك خبرة في السرد، وحتى القراءات التي أنجزتها في تلك الأيام، كان معظمها في الشعر، باستثناء قراءات في الرواية، كنت قمت بها منذ الصغر، حيث قرأت لمعظم من كتب ووصلت كتبه إلى مدينتي، وتذكرت أن لي محاولات بالفعل في كتابة الرواية، منذ المرحلة الابتدائية، لم ترتق لتكون أعمالا منشورة بالطبع.
أخيرا وبعد شهر تقريبا، أكملت كتابة القرية المكثفة، أكملتها وفرحت جدا، ولم تكن ثمة مواقع تواصل اجتماعي ليكتب مبتدئ مبتهج: باركوا لي، لقد أنهيت روايتي الأولى، وتنهال المباركات كما يحدث الآن، وعلى الرغم من ذلك كان الأمر يعتبر إنجازا كبيرا في تلك الأيام، لأن من يكتبون الرواية، كانوا قلة، والقراء كثرا، ويمكن أن يسعدوا الكتاب كلهم.
(5)
بعد ذلك، جاء دوري في قراءة فصول روايتي في المقهى، والاستماع لآراء الأصدقاء وغير الأصدقاء، وسكة النشر التي كانت موضوعا آخر.
المهم أنني تذكرت اليوم الذي بدأت فيه، قبل ثلاثين عاما، وكان من المفروض أن أحتفل بذلك، لولا أن حماسي قل بمرور السنوات، ولم تعد فرحة الإنجاز الأول، تبرق في حياتي، رغم كل ما أحاول تقديمه، وينجح بعضه، رغم كل هؤلاء الأصدقاء والمتحمسين وداعمي التجربة. فليعد بي الزمن إلى أيام الرواية الأولى، وسيجدني مجرد قارئ لا علاقة له بذلك التعب.

 

 

اليوم التالي


تعليق واحد