مقالات متنوعة

رقية أبو شوك : أمي” نفيسة “مشت وين؟؟؟


تمر الأيام والشهور والأعوام دون أن نحس بها.. نلهو ونضحك ونمرح في أيام الفرح والأيام العادية وأيضا نبكي من الأعماق عندما نفقد عزيزاً .. نبكي كأننا لم نبكِ من قبل ولكن لأنها الدنيا ونحن سمينا أناساً لأننا ننسَ فقد ننسى ولكن يبقى الحزن بالدواخل، لن ننسى أبدا ما فقدناهم وتجري الدموع منهمرة عندما تأتي ذكراهم وحينها ندعو لهم بالرحمة والمغفرة، فإنها طبيعة الحياة
هذه الأيام تمر الذكرى الـ(16) على رحيل جدتي لأبي “نفيسة بت بامسيكا” الثالث والعشرين من رمضان 1426هـ الموفق عام2000م رحلت جدتي وأمي نفيسة كما يحلو لي أن أناديها . رحلت وتركت جرحا كبيرا بدواخلي، فعندما توفيت تلقيت النبأ كالصاعقة، كنت أتخيل نفسي بأني لن أعيش بدونها وحتما سأموت اليوم قبل الغد ، ولكني لم أمت لأن الأعمار بيد الله ولكل أجل كتاب،
الآن نحن نعيش ذكراها السنوية بحلول هذا الشهر الكريم ، هي جدتي لأبي تعلمت منها الكثير الكثير وهي التي تكفلت بتربيتي منذ الصغر، كنت لا أفارقها لحظة واحدة، كنت أبحث عنها عندما أخرج وأعود للمنزل مرة أخرى وعندما لم أجدها أسأل وأقول )أمي نفيسة مشت وين؟؟) حتى أسمع بعد ذلك صوتها (أنا هنا) . كانت تحبني من الأعماق أكثر من حبي لها، كانت تحب التعليم والتطلع وإحراز الأهداف وكانت كثيرا ما تقول لابد من أن يكون لكل شخص هدف سامٍ يسعى لتحقيقه حتى وإن كان هذا الهدف لا معنى له عند بقية الناس، المهم أن يحقق ذلك، فكلماتها هذه ما زالت تلازمني حتى هذه اللحظة، فالهدف ثم تحقيقه يصبح ذا أهمية في كل زمان ومكان.
عرفت أنها كانت مكافحة في شتى ضروب الحياة، ساهمت بشكل كبير جدا في تربية أبنائها، كانت بارة بوالديها، تركت بيتها وأولادها من أجل والدتها التي كانت مقعدة بعد أن وصلت من الكبر عتيا، تركتهم بعد أن أخبرتهم أن والدتها في حاجة إليها وحينها لم تجد إلا كلمة (أمشي طوالي) وقد كان، مكثت مع والدتها وكنت أنا معها إلى أن توفاها الله سبحانه وتعالى وبعد ذلك عادت إلى بيتها بعد أن أدت رسالتها تجاه والدتها على أكمل وجه.
كانت لا تخاف في الحق لومة لائم كان يحبها الجميع لأنها (حقانية) كما يقولون، كانت أماً الجميع حنونة عطوفة صاحبة رأي سديد، يلجا إليها الجميع ليسمعوا رأيها، كانت تحب والدي “أحمد أبوشوك” حبا جما وعندما تقول (وحات أحمد) الكلام خلاص انتهى.
هذه هي جدتي لأبي الحاجة “نفيسة أحمد التوم بامسيكا” التي ولدت ونشأت بقرية المقل بالولاية الشمالية من أب عرف بالمروءة والشهامة وهو صاحب القدح الممدود ومن أم “فاطمة بت علي ود نقد” حيث كان يحلو لها أن تدندن بكلمات في حق والدتها مدحا:
بت علي ود نقد قصبة مريقا
وياشتيل عمك بشير الفي السبيقة
بت علي ود نقد جارها قافة
بحورك تسبت وبلدك مخافة
ولدت بقرية المقل ولكنها رحلت مع زوجها “محمد محمد خير أبوشوك” إلى كورتي بالولاية الشمالية، كانت لها صولات وجولات هنالك، كان بيتها مفتوحاً للكل لا تمل ولاتكل وتقول (من الله ولله) كنا نعرف قيمتها تماما ولكن في نفس الوقت نحب أن يحدثنا عن قيمتها الآخرون حتى نتهلل فرحا بهذا العشق الذي وجدته عند الكل .
عندما توفيت بكاها الصغير قبل الكبير لأنها أحبتهم وحنت إليهم، بكتها “حسينة ” و”بخيتة” و”بت الدقير” و”حليمة العصملي” و”فاطمة بت عاشة الحمراء”، بكتها عمتي مدينة حتى كادت تلحق بها .
أما أبي فكان يكتم العبرات بالدواخل حتى شاخ قبل موعد الشيخوخة وكثيرا ما كان يردد قول محمد بادي بعد رحيل إسماعيل حسن:
أرمي الدمعة فوق الدمعتين يا عين
وبعد الليلة حابساها الدموع لمين
اللهم ارحمها بأعظم مما قدمت، اللهم ارحمها ببركة هذا الشهر الفضيل، وأجعل الجنة مثواها.