جعفر عباس

بكائية من أضاع عمره في التدريس


رغم تأكيدي المتكرر أنني اعتبر السنوات القليلة التي أمضيتها في التدريس أخصب سنوات عمري المهني، ورغم أنني دخلت مجال التدريس عن رغبة وليس لـ«قلة الحيلة»، فإنني لست نادما على هجر تلك المهنة، وخاصة أنني رأيت أحوال المدرسين في كثير من البلدان العربية وصرت في السنوات الأخيرة وكلما التقيت بمعلم صبية أقول له: شد حيلك. شدة وتزول إن شاء الله.
ثم عثرت على قصيدة كتبها مدرس ظل صامدا في المهنة حتى نهاية أمد صلاحيته وظيفيا، وحمدت الله على نجاتي بجلدي من التدريس. اقرأوا ما قاله صاحبنا شعرا وهو يقف على أطلال جسمه وقواه العقلية:
بِساحِ العلم أفنينا الشبابا / وأوجفْنا الأعنّة والرِّكابا / فما أبقى لنا الطلابُ عقلاً / ولا تركَ الدوامُ لنا صوابا / قطعنا العمْر من صفٍ لصفٍ / وجاهدنا المتاعبَ والصعابا / بني قومي أرى التدريسَ بلوى / وكلُّ مدرسٍ فيها.. مُصَابا / فلو عاش المدرسُ ألف عامٍ / لظلَّ بعين طالبِه غُرابا / وإن غضِب المدير عليه يومًا / أحس الناسَ كلُّهمُ غِضابا (فعلا يحدث كثيرا أن يحسب الطلاب المعلم طالع شؤم ونحس، بينما السيد المدير يعتبر نفسه الآمر الأمير المسؤول عن قطعان البعير، ورغم أن التدريس يفتح بوابات النجاح في كل المجالات، فإن المدرس الذي يؤهل المحاسب والطبيب والمهندس يكون ماديا من مستحقي الزكاة والعناية الطبية الفائقة:
ولو جمعتَ رواتبَه الخوالي / من التعليم ما بلَغَتْ نِصَابا / دخولُ الصفِّ والتدريس داءٌ / سلوا عنه الملوِّعَ كيف ذابا / وكم عانى خلالَ العامِ دِسْكًا / وآلامًا وضغطًا والتهابا / إذا ما خاضَ معَ جيلِ الجلكسي / قضى بِالهمِّ وانتحر اكتئابا (ولهذا قال قائل – ربما هو الجاحظ – إن معلم الصبية لا تُقبل شهادته في المحاكم) وحمدا لله فقد اعتزلت التدريس قبل الطفرات التكنولوجية، التي جعلت معلم أيامنا هذه في واد وطلابه في رابية عالية يحدقون من فوقها على كل مكان إلا السبورة، وأترك المايكروفون لصاحبي الذي مارس التدريس حتى أصبح «هريس»:
فلو علَّمْتَ هذا الجيلَ دهرًا / لما عرَف القراءة والحسابا / ولكن أتقَنَ الوتْسَاب غَيبًا / وأستاذًا إذا بَعَث السِّنابا / على الرتويت والتغريد يمضي / طَوالَ العام ما فتح الكتابا (هوِّن عليك يا صديقي فحتى كآباء لم نعد نجد آذانا صاغية ولا عيونا رائية من عيالنا الممسك كل واحد منهم بأداة مستطيلة الشكل وتراه يمسح سطحها بإصبع واحد يمنة ويسرة، فتحسب أنه يهش عنها حشرات مايكروسكوبية.
وشاعرنا المدرس المتقاعد (سأكون شاكرا لمن يدلني على اسمه، فقد سألت عنه غوغل ولكنه أتاني بالقصيدة من دون اسم من صاغها مما يدل على أن غوغل أيضا يضطهد المدرسين). المهم أن شاعرنا فاعل خير ويقدم نصيحة ثمينة لمن يستعدون لدخول الحياة العملية:
فويلٌ للمدرسِّ من زمانٍ / إذا ما زاولَ التدريسَ شابا / نعمْ بالعلم نبني كل مجدٍ / ولكن المدرّسَ ما أصَابا / فلا تقْرَبْ من التدريسِ يومًا / ولو أعطوكَ باليورو الْحِسَابا / فقد أبحرْتُ في التعليم عُمْرًا / غرِقتُ وما تجاوزْتُ العُبَابا / ولما صِرْتُ سِكْرابًا عجوزًا / عديمَ النفعِ أعلنتُ المتابا / خرجتُ تقاعُدًا ولسانُ حالي / ألا يا ليتني كنتُ ترابا (قرأت هذه القصيدة على طالب فكان رده هذا البيت المكسَّر: قم للطالب وفه التبجيلا / لولا الطالب لباع المعلم البليلة).