منى ابوزيد

إجازة بدون مرتب ..!


“يبدأ الإحسان في البيت، وتبدأ العدالة عند الجار” .. تشارلز ديكنز ..!
كل عام وأنتم بخير .. أعاده الله عليكم كما تحبون .. وتقبل صيامنا وقيامنا .. ورحم أمواتنا جميعاً وأسكهم فسيح جناته .. وأدخلنا وأحياءنا في درعه الحصينة وسترنا بستره الواقي، وكفانا ما أهمنا من أمر الدنيا والآخرة .. إنه ولي ذلك والقادر عليه ..!
بمناسبة روحانيات العيد التي تغسل القلوب إليكم هذه الحكاية النبيلة التي سمعتُ – ذات سانحة – ضيفاً تلفزيونياً يقصها على مشاهديه بعد أن غيرت مجرى حياته! ..
كان الرجل يستقل قطاراً في سفر طويل جمعه بغرباء مختلفة ألوانهم، وكان من بين جلوس المسافرين أسير أو سجين، في يديه أصفاد، وعن يمينه وشماله عساكر يحرسونه، وكأنه سفاح متوحش في طريقه إلى تنفيذ حكم بالإعدام ..!
وكان من بين وقوف المسافرين طفل صغير دون الخامسة غارق في النعاس .. رق قلب السجين لحاله فأخذه بين يديه .. وأراح رأسه الصغير على فخذه .. فتأمل راوي الحكاية منظر الطفل الذي نام في سلام، تربت على رأسه كف الأسير التي تمردت على أصفاد العساكر ..!
تلك اللمحة الإنسانية التي بدرت عن ذلك السجين ـــ رغم عتمة حاله وإظلام ما كان مسافراً إليه ـــ غسلت روح الراوي، ومنحته قبساً من نورها، فأخذ على نفسه عهداً أن يحذو حذو ذلك الأسير ما بقي حَياً ..!
هذه الحكاية الجليلة، الجميلة، أمسكت بتلابيبي، وأعادتني بدورها إلى حادثة أكثر نبلاً بطلها فقيد العلم والفكر الدكتور الفيلسوف، محمود أمين العالم، صاحب نظرية المصادفة الموضوعية ـــ رحمه الله ـــ والذي غادر دنيانا قبل بضعة أعوام ..!
حينما اعتُقل الدكتور “العالم” في الخمسينيات كان سجانه يجلده بالسوط صباحاً وعندما يأتي المساء، كان ذات السجان يجلس إليه فيعلمه القراءة والكتابة، مجتهداً بإخلاص في محو أميته .. وكانت فلسفته في ذلك أن كلاً منهما ـــ السجان وهو ـــ يؤدي عمله في الحياة ..!
السجان يجلده لأن قادته أقنعوه بأنه عدو الوطن والدين، وعليه فجلده بالسياط – من وجهة نظره – واجب وطني .. أما هو فقد كان يؤدي عمله أيضاً، ذلك أن تعليم السجان وتنويره – من وجهة نظره أيضاً – واجب وطني .. وهو يرى أنه حق الجاهل على المثقف الذي يدرك أن محنة أمته تكمن في أزمة وعيها، وأن دور كل مثقف هو أن يجتهد في بناء وعي الناس قبل أن يحاسبهم على أخطائهم ..!
الإنسان الحق يفعل مثل سجين القطار، النبيل، فلا يسقط معاناته على الآخرين ولا يقسو على الناس بحجة قسوة الغير عليه .. والمثقف الحق لا يقابل أخطاء الآخرين بالخطأ، فهو يعلم تماماً أنهم ليسوا أعداءه، ويدرك جداً أن الجهل ـــ في كل مكان وزمان ـــ هو العدو الأولى بالمعارك ..!
ويبقى عيد الفطر المبارك مناخاً جيداً لنمو الإيماءات الإنسانية، بعد كساد سوق المعاصي بسبب عطلة الشياطين الرمضانية.. حتى الأرواح الشريرة تأخذ ــــ في مثل هذه الأيام ــــ إجازة بدون مرتب، فما بالكم بوجوه الإحسان .. كل عام وأنتم بخير ..!