اسحق احمد فضل الله

المقـــــدمـــة (3)


ونكتب الحلقات الطوال هذه لاننا نريد ان نقدم كل حزب (زي ما الله خلقو) عريان نربطه حتى (بالمخرج) الذي خرج منه الى الدنيا.. ( ولعن الاله وليس يلعن غيره) بظراً تفلق عن مفارق جحدر) ونبدأ بالاسلاميين.. منذ من ايام كانوا اسلاميين وحتى اصبحوا .. اصبحوا.. ماذا؟ ثم الاحزاب . وكل حزب نحدث عن (من) فيه .. صنع(ماذا) واين ولماذا ثم نفرد معلقات فرائد للشيوعي فالشيوعي له مذاق الخمر.. طرب ورقص.. وليل.. ثم بول في السروال والحلقات نسردها ثم نجمع اعمال و(عمايل) كل جهة ثم بعدها نبدأ المحاكمات ********* مائة وخمسون ساعة في تاريخ السودان شعور المخابرات المصرية ان السودانيين لا يطيقون الفكر الشيوعي جعلها تتخذ خطوة متعجلة لابعادهم.. وهكذا كان التوتر يتمطى بين الشيوعيين والنميري بعد شهور قليلة من انقلاب مايو. وحين كان اسرى الجزيرة ابا من الاسلاميين والانصار ينتظرون الاعدام في سجن كوبر كان عبد الخالق محجوب معتقلاً في ايدي المخابرات المصرية. شهر مارس كان يسرع بصيف ساخن.. والشيخ محمد محمد الصادق الكاروري وآخرين من اسرى الاخوان والانصار في الجزيرة كانوا في سجن كوبر وطائرة وزير خارجية النميري فاروق ابو عيسى تعبر فوق رؤوسهم فجراً وتهبط في مطار الخرطوم صباح السادس عشر من يوليو 1971 عائداً من القاهرة وكل شيء يبدو هادئاً والصحف تتعمد ان تجعله يبدو كذلك بعد عاصفتين متتابعتين.. حتى بعد المخاشنات مع الحزب الشيوعي. النميري كان ما يزال يحلق بجناحين حمراوين- وظل النسر الشيوعي تؤكد وجوده اخبار صغيرة هادئة وطائرة اللواء مامون ابوزيد تهبط بعد طائرة وزير الخارجية عائداً من الصومال بعد تهنئة سياد بري الشيوعي بالنجاة من انقلاب هناك. والهدوء الذي يتمطى مثل قطة نائمة يجعل الصحف تلتهي باخبار مثل العثور على مذكرات جمال عبد الناصر، في خزانة سامي شرف.. اثناء صراع مراكز القوى هناك.. والغناء لثورة مايو يجعل سينما كلزيوم عن عرضها باعلان ضخم يقول لهم إن الدار ( تقدم بكل فخر.. وبمناسبة مرور عام على قرارات التأميم والمصادرة .. الفيلم العظيم. الرجل الحصان). وكانها تغمز بعينها. كانت اصابع الحزب الشيوعي العنكبوتية ترسم صورة كاريكاتورية للنميري الذي لم يكن يشعر بشيء.. وبعد تسعة ايام فقط من ذلك اليوم سوف يجلس النميري وهو يحاكم بابكر النور.. بعد الانقلاب الشيوعي.. ليقول في غضب (قصدتو تخلوني اعلن عن مشاريع وهمية – علشان الناس يكرهوني)..!! ولم تكن المشاريع الوهمية وحدها هي التي تدبر للنميري- بل انقلاب يبلغ من دمويته انه يسن سنة جديدة لم تعرفها الحياة السياسية في السودان.. من قبل.. سنة الموت الغادر التي يطبقها الشيوعيون حتى اليوم والناس الذين يغادرون السينما بعد مشاهدة الرجل الحصان كانوا يجلسون امام التلفزيون لمشاهدة محاكمة مثيرة يحولها الى الارتباك الى مهزلة. كان ابو القاسم محمد ابراهيم يحاكم المرتزق الالماني شتاينر. وكان هذا هو كل ما هنالك من احداث(اضافة الى شيء ليس خبراً – وهو ان عدداً من الضباط الشيوعيين المفصولين من القوات المسلحة اخذوا يعدون البدلة العسكرية المعلقة في دواليب ملابسهم تلك الايام.. ولما كان النميري يقف خطيباً في جامعة الخرطوم ويعلن ان جامعة الخرطوم ( لن تكون للذين خانوا امانة العلم وشرف الثقافة) لم يكن يقصد غير الاسلاميين.. لكن الشيوعيين كانوا قد اكملوا اعدادهم للتحرك. والكاروري والمعتقلون في سجن كوبر كانوا ( يحتدون) استعداداً للاعدام.. والحزب الشيوعي سوف يكون هو الذي ينقذهم من الاعدام. *** وما بين التاسع عشر من يوليو والسادس والعشرين كانت مائة وسبعون ساعة تبدل كل شيء في السودان. الاسلاميون الذين ينتظرون الاعدام بامر من النميري يلغى النميري الحكم باعدامهم بسبب خيانة الشيوعيين. والشيوعيون الذين كانوا ما بين لندن والعراق والخرطوم تتخاطفهم احكام الاعدام في الخرطوم.. (ولواري) القوات المسلحة تندفع هادرة في نهار الخرطوم.. وبداخلها شحنات من الجنود المصطرخين. وعدد ضخم من قادة القوات المسلحة الذين كانوا يجلسون دون نشاط يكدسون في دار الضيافة ثم تنهال عليهم الرشاشات الشيوعية. واصابع من خارج السودان كانت تعمل واصابع الاستخبارات الامريكية والبريطانية والمصرية كانت هناك- فالطائرة العراقية التي كانت تعبر المياه السعودية متجهة الى الخرطوم – والتي كانت تحمل عدداً من البعثيين والشيوعيين من بينهم حفيد للخليفة عبد الله التعايشي.. وكان معلماً (…….) الطائرة هذه اسقطتها المخابرات الامريكية.. التي لم يكن يسرها ان تقوم حكومة شيوعية في السودان بعد ان قامت حكومة شيوعية في الصومال واخرى في اليمن الجنوبي وثالثة تقترب في اثيوبيا.. والطائرة البريطانية التي تقل قيادة الثورة الشيوعية قادمة من لندن.. والتي جعلها القذافي تهبط قسراً ثم اعتقل من فيها كان عملاً لم تحتج عليه الحكومة البريطانية حتى الآن. بينما كانت المخابرات المصرية تستأنف معركة السادات ضد السوفيت.. وكان السودان ظهراً مكشوفاً. **** مقاعد الحفل الذي تحدث فيه النميري بجامعة الخرطوم – وهو يهيئ الناس لاعدام اسرى الجزيرة ابا – كانت ما تزال مركومة في ميدان الجامعة الشرقي لما كانت الصحف تتدفق وهي تحمل اخباراً على صفحتها الاولى في مربعات صغيرة يومي الرابع والعشرين والخامس والعشرين من يوليو. وكان مربع صغير يتحدث عن اعدام بابكر النور وفاروق عثمان حمد الله في الخامس والعشرين من يوليو. ومربع صغير يتحدث عن اعدام هاشم العطا وعثمان حاج يس. ومربع آخر صغير عن محاكمة جوزيف قرنق ومركزية الحزب الشيوعي. ومربع صغير عن اعدام الشفيع احمد الشيخ واعتقال عبد الخلق محجوب. وصور لمطلوبين هم محمد ابراهيم نقد والجزولي سعيد والتجاني الطيب. بينما محجوب عثمان سفير السوان بيوغندا يحتفي. والكاروري الذي استدعى لمقابلة النميري مرتين -الاولى في مارس – كان يستدعى في الثانية في الاسبوع الرابع من يوليو 1971 للقاء آخر. في اللقاء الاول كان هناك النميري وهاشم العطا وكان لقاءً فظاً. وفي الثاني كان اللقاء يشهد تبادل النكات بين الاسير والحاكم الذي يصدر الحكم باعدامه. ما بين مارس ولحظات الاعتقال قريباً من الكرمك وحتى نهاية يوليو ولقاء الكاروري بالنميري كانت ايدي المتقلين وارجلهم مقيدة. وهكذا كان الكاروري يدخل على النميري وايديه من خلفه. قال الكاروري: سلمت- ولم يرد احد- وكان هناك زين العابدين وابو القاسم محمد ابراهيم وخالد حسن عباس – النميري قال لي ساخراً. شقيش تمشي يا كاروري؟ وكان بهذه الجملة يشير الى مقطع من اغنية شهيرة يومئذ.. قال: صححت له مقطع الاغنية.. وعن (شقيش) التي تمشي اليها قلت: نحن كنا رايحين اثيوبيا.. مخليين ليكم بلدكم دي قال: بلدنا نحن؟؟ قلت: انتو الآن حكامها حين اعادوني للزنزانة جاء هاشم العطا وفي يده مسدس يديره في عصبية . قال في غضب: انتو ضربتو القوات المسلحة؟! قلت: القوات المسلحة جاتنا في الجزيرة.. قال وعيونه تلمع انتو حتتكلموا بعدين. قلت: فلماذا انت مستعجل الآن؟؟ نظر بحدة وهو يدير مسدسه وكانت هذه عادة عنده – ثم اندفع خارجاً. في اليوم التالي كان حشد آخر يدخل الزنزانة منهم ابو القاسم محمد ابراهيم وزين العابدين محمد احمد عبد القادر والفريق الباقر.. وكان واضحاً ان الباقر لا يشارك الآخرين مشاعرهم.. لم يسلم أحد ليقول ابوالقاسم. انتو بتقولوا ان الامام يدخل الناس الجنة؟! ولم ارد.. وفي الثالثة قال: انت ما بترد ليه؟ قلت: الذي يقول ذلك ليس انا قال: لا انتو بتقولوا. قلت : احسن بدل ما تقعد تهاترني وانا مكلبش ان تفك قيودي عشان اقيف واتكلم معاك – او ان تقول للولد دا- العسكري المرافق- يضرب طلقة علشان ارتاح من كلامك دا. زين العابدين جلس يحدثني برقة – ثم قدم سيجارة وحين رفضتها قال في ارتباك: آه- نعم- مولانا ما بيدخن. حين تحولوا للخروج تأخر الباقر خطوتين ليشير لي مشجعاً.. ثم قال بعد تردد: هل تعرف ماذا في صحف اليوم؟! لقاء الكاروري بالنميري عصر ذلك اليوم سوف يكشف معني السؤال فالنميري سوف يعرض على الشيخ الكاروري صحيفة – والخط الرئيسي فيها هو اعتقال عبد الخالق محجوب. لكن حواراً مثيراً كان ينتظر الرجل. وكان الحديث يتخلله اسم عثمان خالد مضوي. وكان عثمان خالد قد تلقى امراً وهو في لندن ان يشرع في تكوين الجبهة الوطنية للعمل ضد حكومة النميري. وكان على رجل واحد ان يقيم جيشاً لقتال حكومة يدعمها نصف العالم!! وبعد خمس سنوات كان جيش عثمان خالد يدخل الخرطوم ويطيح بالنميري فعلاً. لكن السنوات الخمس هذه كانت جيوش كثيرة من الاحداث تدخلها وتبدل كل شيء. العقيد القذافي الذي انقذ النميري من الانقلاب الشيوعي كان هو الذي يستقبل معسكرات المعارضة السودانية ويقدم لها دعماً كثيفاً – مثلما كان يقدم دعماً لعشرين ثورة في الارض. وحين دخل ثلاثة عشر طالباً من جامعة الخرطوم معسكر المعارضة في ليبيا فوجئوا هناك بجنود لثوار من الفلبين وثوار من فلسطين ونيكاراجوا واليمن وتشاد وبلاد لم يسمع بها احد. الشباب الثلاثة عشر كان منهم محمد صديق عبد الله وعبد الغفار عبد الرحيم وعبد الله ميرغني والاغبش وختم احمد عبد الكريم وعلي خضر وادريس همت ومحمد بخيت المفتي وابراهيم محمد الحسن وآدم بلوح – واحمد العاص *** كانت الساعة الخامسة صباحاً في فجر الخامس من ديسمبر 1975 تشهد اقلاع احدى الطائرات متجهة الى بيت الله الحرام وتحمل حجاجاً وكان من بين الطلاب هؤلاء محمد علي الامين يلوح بيديه مودعاً وقليلاً ما تجد احداً استغرقته دعوة الاخوان المسلمين مثلما فعلت بمحمد علي الامين هذا. في ايام الحج- وحيث كانت بيعة العقبة النبوية عرف الطلاب ما امامهم. كان كل شيء يبسط كاملاً حتى يمضي كل احد على بينة- فقد كان القرار هو.. القتال..!! وفي القاهرة حين بسط الامر وقرار القتال انسحب عدد غير قليل من الاسلاميين لكن شابا ممتلئاً يقرر ان يمضي.. كان اسمه عبد الاله خوجلي.. شقيق حسين خوجلي. الشاب الذي خالط (اخوان السجون) في مصر طويلاً وكان مخبتاً كثير البكاء في الليل كثير الضحك في النهار كان قد استقدم زوجته من الخرطوم قبل اربعة ايام. الزوجة كانت تعد بيتها للاقامة حين فوجئت بزوجها يعلنها بعودتها للخرطوم. كان الفتى قد قرر ان يلتحق بالمسعكرات المقاتلة. بعد ساعات كان يركع في المطار ليقبل خدود ابنته الطفلة. وحتى اليوم توجد في وصيته فقرة توصي كل الاسلاميين ان يشاركوا في تربية طفلته هذه ولو بنصيحة طيبة. كانت الاشياء تنطلق وعبد الاله لو انه كان يعلم الغيب ما بدل شيئاً مما قال او فعل.