رأي ومقالات

الشيخ حسن الترابي ذكري وخواطر


أولا تربطني بالشيخ حسن الترابي رحمه الله وأحسن مثواه’ من الوشائج ما يستعصي وصفه بدأت بميلادي في أسرة الشيخ عبدالله الترابي الذي هو والده وجدي وتنامت في سجون النميري التي لبثت فيها معه بضع سنين واستوثقت باقامتي معه في بيته في مقتبل الشباب واستغلظت علي ضفاف بحيرات سويسرا وسفوح جبالها. وهي علاقة اختلطت فيها القرابة بقليل من السياسة والفكر بكثير من الصداقة و تضافرت حلقاتها اختيارا وقدرا سرا وعلانية بعدا وقربا ولكن كانت كلها تنطوي علي حب فريد وإعجاب كبير بخصاله وعلمه وفكره وقناعاته مما دفعني في مطلع عهد الحكومة الحالية في السودان التي كانت تجمع بينه والرئيس البشير قبل حدوث الخلاف المعروف بينهما أن أكتب كتابا أتساءل فيه بأسي عن سر عمق الهوة بين أفكار الشيخ حسن الترابي و قناعاته المعلنة وسياسات الحكومة التي تحكم باسم حزبه آنذاك.

والآن بعد أن ذهب أبانا الشيخ حسن الترابي إلي ملكوت ربه ومعه شئ من أمله في توحيد أهل السودان ونهضة الامة الاسلامية انهالت عليه الألسن و الاقلام بعضها يعظم دوره وفكره وجهاده وبعضها يعتب عليه في ود وبعضها يسلقه بالسنة حداد ولما بعد ينفض مأتمه. وليس ذلك بغريب بعد رحيل رجل جمع بين النبوغ الاكاديمي والامتياز السياسي وعمق الفكر الديني وأفرغها في تجربة عملية تحمل نزق الثوار وسيئات الأبرار وتعصف شرقا و غربا مثل الاعصار. خاصة وأن الشيخ حسن الترابي كان رجل لا يبالي ركوب البحار الهائجة و الخيول الجامحة ولا السير علي الحبال الرثّة ولا أن يلقي الضيم أويسام الخسف في سبيل معتقداته وارآئه. مما زلزل الارض تحت اقدام محبيه و مبغضيه و ألقي الرعب في قلوب اعدائه و مريديه فأصبح الجميع يتطلع اليه ويرقبه في حركته وسكونه وصمته وحديثه’ اذا اقترب منهم لا يأمنون اقترابه فيتوترون ويضطربون واذا نأي عنهم قض مضجعهم و أدمي مآقيهم بالسهر والترقب لما هو فاعله بهم. وهو ماض بعزم لا يلين و قدم لا ترتجف الي حيث لا أحد يعلم لا يأبه بمن رمي في طريقه الاشواك أو بسط له الزرابي ولا بما خلفه وراءه من قدح و مدح و عيون و حمم و حدائق و حرائق. فالرجل يؤمن بأنه صاحب رسالة تفوق قيمتها حياته فهو يحيا بها ولها ولا يلتفت الي غيرها.

وهاهو الرجل قد رحل بعلمه الذي لا ينتقل بالوراثة حيث أن العلم يكتسب وترك خلفه تجربة سياسية مختلف عليها في السودان ولكنه ترك خلفه أيضا كسبا عظيما في الفكر الاسلامي لا تقف آثاره عند حدود السودان وهو الجدير بالوقوف عنده والتأمل فيه بعيدا عن سطوة العاطفة والانفعال و جهل العصبية ومزالق الاندفاع والنوم البهيمي والتقليد الأعمي لأن ما حرم الأمة الاسلامية من جهد الكثير من أبنائها هو طغيان العاطفة و العصبية الذي يلغي المسافة بين المشاعر والعقول.

ومن أمثلة طغيان العصبية أن يقول قائل لفرط اعجابه بقادته الديبنيين أو السياسيين أن عالما أو زعيما قد أوتي كل الحكمة و جميع خصال الخير و الكمال . وهذا عاطفي وليس عقلاني لأنه إذا ادعي أحد أن فردا بلغ من العلم ما يجعله يحيط بكل شئ ومن الكمال ما يجعله فوق كل خطأ و زلة لكان بطلان دعواه أو استحالتها أمرا بينا للداني والقاصي. وبذلك يجب النظر الي كسب الشيخ حسن الترابي وتقديمه لمن يرغب باعتباره إضاءة كبيرة ونقلة تاريخية في إطار جهد جماعي مشترك وسلسلة متصلة منذ السلف وستستمر بعده بعون الله وتوفيق المؤمنين لجعل الدين حلا وليس مشكلا ’ وفي هذا الجهد المتصل يسهم البعض بالكثير والآخر باليسير ولكن الكثير فيه لا يفضل بالضرورة اليسير لأنه ربما لا يفيد الكثير بغير إضافة اليسير الذي ينقصه.

ومن مزالق الاندفاع أن يختصر أحد معارضي الشيخ حسن الترابي ثمرة أفكاره التي امتدت لعشرات السنين في بعض أرائه العارضة في مسائل فرعية ثانوية و يدعي أنها كفر يحبط كل عمله في بناء تصور شامل لمنهج يجدد رؤية خاصة المسلمين لمقاصد الدين’ و كل ما يسره للمسلمين من معارف وكل ما فتحه لهم من آفاق. لأننا لو أجرينا هذا المنطق علي كل أئمة المسلمين وعلمائهم الاعلام لما وجدنا واحدا منهم قد خلت أعماله من قول شاذ أو نجا شخصه من طافح يتهمه في دينه ولاصبح كل ما في أيدينا من تراث يحفظ الدين عمل طائفة من اهل الضلال. لا ليس هذا منهج السلف بل منهجهم أنهم اذا استنكروا علي أحد العلماء رأي نسب له أن يتبينوا أولا صحة الخبر من صاحبه بالتلطف ثم يواجهونه بالدليل الشرعي إذا ما اقتضت الحاجة وفي موضع الاشكال علي الخصوص بينما يعظمون له الثناء لما نفع به الامة في مجمل كسبه. وهذا ما ورد تفصيلا في رسالة الشيخ عبد العزيز بن باز للشيخ حسن الترابي رحمهما الله حينما أرسل له شخص رسالة يتقول فهيا علي الشيخ حسن الترابي.

وربما نظلم الشيخ حسن الترابي ونسئ فهمه إذا فصلنا كسبه عن الظرف التاريخي الذي عاش فيه لأنه بسبب النهضة الاوروبية الكبري والتحدي الذي أصبحت تمثله للشرق الاسلامي المتخلف والمتآكل بدأ الكثيرمن المفكرين المسلمين يطرحون السؤال منذ القرن التاسع عشر لماذا تخلفنا وتقدم الغرب المسيحي وكيف سنعيد مجدنا القديم؟

غير أن الجيل الذي عاش في الفترة الاستعمارية وتعلم علي أيدي المستعمرين بشقيه المدني والعسكري تملك جله القنوط وانتابته الشكوك بسبب الهزائم الساحقة التي الحقها الغرب بالمسلمين والتفوق العسكري و العلمي والفكري الذي حققه عليهم وعجز علماء الدين عن تقديم البديل الاسلامي للإيفاء بحاجيات الحياة العصرية فقبل بفكرة أن للعالم تاريخ مشترك وأنه يسير دائما الي الامام إلا أن أمم تسبق غيرها مما يمنحه شكل هرمي وعلي الأمم في أسفل الهرم أن تستهدي بمن هم أعلاه اذا ارادت أن تلحق بركبها فتبنوا فكرة الدولة القومية الغربية العلمانية الحديثة وأهم أركانها فصل الدين عن الحياة العامة. وهو التيار الذي يجمع بين التيارات الليبرالية والشيوعية العربية ومشتقاتها التي هيمنت علي جميع الدول الاسلامية بعد الاستقلال.

وهذا ما يفسر خيبة أمل بعض هذا الجيل في الشيخ حسن الترابي الذي هو جزء منه وتشكيك بعضهم في صدق توجهه الديني. لأن الفهم العام الذي كان سائدا في فترة هذا الجيل الذي عقب الاستقلال أن الافكار الغربية تمثل التطور والعلم والحضارة والحرية وأن الافكار الدينية تمثل الظلامية والاستبداد, وبذلك كان رفاق الشيخ حسن الترابي من هذا الجيل يرون أنه من غير الممكن أن ينتمي شخص كالدكتور حسن الترابي للافكار الدينية بعدما كل ما نهل من العلوم والمعارف الغربية, اللهم إلا إذا كان يستخدم هذا الشعار لتحقيق مصالح سياسيية أو شخصية عبر التظاهر بأمارات الدين. وربما أدي هذا الاستنتاج الي استهانة القوي العلمانية باطروحات الشيخ حسن الترابي الاسلامية في بداياتها فاختاروا تجاهله والسخرية منه بدلا من مواجهته وتخريب جهوده مما منحه الفرصة لكي يخطط في هدوء لمشروعه الاسلامي الذي باغتهم به في نهاية الطريق بعد أن أحكم قواعده.

غير أن هذه التيارات اللبيرالية و الشيوعية ومشتقاتها فشلت فشلا مخزيا في ادارة بلدان العالم الاسلامي بعد رحيل الاستعمار فعممت الفقر والظلم والفساد واذاقت شعوب المنطقة من العذاب ما فاق قهر المستعمرين انفسهم مما جعل المواطنين في الاقطار الاسلامية يبحثون عن البديل وحينما يبحث المسلم عن البديل فلا بد أن في مخيلته المبادئ والقيم التي بنا بها محمد صلي الله عليه وسلم ركن أمته المنيع ورفع بها لواء شرفها الرفيع.

ومن فشل هذه التيارات العلمانية ولد مؤخرا الفكر الاسلامي التجديدي الذي أصبح قطبه الشيخ حسن الترابي والذي رفض نظرية الشكل الهرمي للعالم التي توجب التبعية للغرب وطرح بدلا عنها نظرية العالم المنبسط متعدد الحضارات ولكنه أقر بعدم مواكبة الفكر الاسلامي التقليدي لمتطلبات الحياة العصرية لا لعيب في الاسلام بل لعجز المسلمين عن فهمه وفقا لتطور الحياة فاختار أصعب الطرق بالسعي إلي إعادة تفسير النصوص الدينية وفقا للمتطلبات الحديثة وصياغتها في أنموذج إسلامي عملي عصري يجمع بين الخاص والعام والروحي والمادي يوفر الامن والحرية والرفاهية والعدالة والسلم والاستقلال بقدر المستطاع حتي يصبح الشرق الاسلامي ندا للحضارة الغربية بدلا من أن يكون حديقتها الخلفية وحقل تجاربها وملكها المستباح.

وهو أمرتتمني كل الامة لو كان ممكنا ويبدو للبعض سهلا في ظاهره ولكن ما أن تبدأ بالخوض فيه حتي تدرك أنك قد اخترت حل يونس عليه السلام من المركب الغارقة الي جوف الحوت. وبذلك يتطلب الكثير من الشجاعة والايمان والعلم والثقة بالنفس والتفاؤل وروح الفدائيين. ولعل أهم ما ميز الشيخ حسن الترابي عن غيره في هذا المجال أن كل هذه الصفات قد اجتمعت فيه. كما أنه حل عربي بامتياز ولا أدري مدي عروبة الشيخ حسن الترابي العرقية خاصة بعدما وصفه بعض رفاقه العلماء العرب الكبار بوجهه السوداني الأصيل في بيانات نعيه ولكنه قطعا عربي الوجدان قبل أن يكون عربي اللسان ومن خصائص العربي أنه حينما تعرض له معضلة يستعصي حلها يختار لها حلا أكثر منها تعقيدا بل أقرب للاستحالة ويثير السخرية لدي الآخرين ولكنه يستميت في بلوغ هدفه حتي يحققه أحيانا فيصبح حله معجزة ويتحول هو الي أسطورة.

د. عمر ابراهيم الترابي