مقالات متنوعة

د. ناهد قرناص : العيد في البطانة (*)


العيد في البطانة (2-3)
( التعسم) ..بكسر التاء والعين والسين ..كان شعاري اواخر رمضان ..ارهاق الصوم مع العمل ثم السهر ..اجتمعت كلها لتنتج جسدا في حاجة الى دخول ورشة العمرة بفتح العين …لذلك كنت انتظر اجازة العيد لاقضيها نائمة …لكن زوجي كان بالمرصاد ..قرار قضاء اجازة العيد في البطانة كان مفاجئا ..سريعا وحاسما ..طال بنا العهد منذ اخر (لمة ) هناك ..لملمنا اطرافنا يوم (التيسوعة) ..اعتقد و(الاعتقاد دا من عندي ) انها من العدد تسعة بس (ياتو تسعة ما عارفة )..كانت الساعة الخامسة مساء ..عندما تحركنا ..وسط تذمري بأنه كان من الافضل (نفطر في بيتنا ونتحرك ) ..لكن ابو هند كان مصرا على ان (الفطور قدام) ..قدام وين؟ الله أعلم …قلت لنفسي (يا بت خليكي في حالك …ما تبقي معسمة في الرقبة والراي كمان ) …بدات الرحلة بعد ما كملنا (المحركة) ..كلمة سودانية خالصة ..يممنا شرقا ..وقد بدأت ملامح الغروب في الأفق .. تمددت الأبسطة على جانبي الطريق ..وكثيرة هي الأيدي التي تشير لنا بان تفضلوا ..بعضهم اوقف عربته في منتصف الطريق ..احدهم كان يقف بنفسه .. ليجبرنا قسرا على التوقف ..كنا نعتذر بلطف ..ونواصل ..حتى أزف وقت الافطار ..ولم يكن امامنا الا النزول عند أقرب (برش)..
كأن الامر كان مرتبا مسبقا ..أو هكذا خيل لي ….يأتيك الاحساس بان هذه حياتهم ..يجلسون فقط في انتظار من يمر ليشاركهم الطعام ..لم يكن اكلهم متكلفا ..كانت عصيدة وملاح تقلية ..عصير ليمون وجك حلو مر ..صحن من البليلة وتمر …لكنه كان مضمخا بالحب والسكينة والسلام ..اناس يلتقونك ببشاشة ..ويحلفون عليك ان تقتسم معهم الزاد ..ترى من أين أتى هؤلاء ؟؟ ..النسمات الباردة ..الهواء النقي ..جعلني احرك رقبتي يمينا ويسارا ..قلت لأخت زوجي (هسه كان لقينا لينا عناقريب في الهواء دا ..وفنجان جبنة) ..فقد اتت لنا الدنيا بقرنيها
بعد صلاة المغرب ..تحركنا وسط دعواتهم لنا بالسلامة ..وتذكيرهم بالقيادة بالمهلة ..والتحذير من بعض المناطق الخطرة …كان زوجي يلوح بيده لهم ..عندما سألته هل حفظ اسماءهم وارقام هواتفهم ..هز رأسه قائلا ..(لا هم عرفوني ولا انا عرفتهم ..ولا كانوا حريصين على كدا .. ..ديل ناس مارقين للخير ..بس ..ما اكتر من كدا) …كانت العربة تنهب الطريق ..النسيم يداعب الوجوه ..والجو ينذر بمطر قريب ..كنا نضحك بدون سبب ..سادت فينا موجة سعادة ..والغريب ان (التعسم ) تراجعت نسبته ..يبدو لي ان الشفاء في الطريق ..كان الكون كله جميلا ..لم يكن ما يقدمه هؤلاء افطارا تنهي به جوعا او يقطع عطشا ..كانوا يقدمون لنا صواني محبة ..اطباق من التسامح ..واكواب من الكرم الدافق .. هناك ..اتانا احساس العيد قبل وصوله بساعات ……ولكن ما زال الدرب الى البطانة في بدايته (يتبع)

العيد في البطانة (2-3)
لم يكن الامر سهلا .. ..كان الليل قد أنزل جحافله السوداء ..سهل البطانة الذي كان يمتد حد الافق ..صار معتما ..لا تستطيع ان ترى يدك ان رفعتها ..لولا اضواء السيارات البعيدة ..لما عرفنا اين نحن …خالد شقيق زوجي ..كان قد أعلن معرفته بالطريق ..(كيف يعني أضيع ؟؟ انا مغمد عيوني اوصلكم ود ساقرته) …يا مؤمن يا مصدق ..كان علينا ..تتبع عربته ..لف يمين .. ..لف شمال ..نلف نحن ايضا .. المسافة طالت ..والمناظر لم تعد هي نفسها ..والصور ليست ذات المشاهد ..والدة زوجي ..كانت تغالب الضحك في ابنها الذي ادعى المعرفة ..قالت لي (الولد دا ..بكون مرقها في الكميلاب ..الدرب دا ما ياهو ..وينها الترابة الحمرا بتاعة العوايدة ..وين الشدر الكتير داك ..) ..
ضوء السيارة كان يضئ المنطقة امامها ..عدة دروب تشعبت في مختلف الارجاء ..كلها انطلقت من نقطة واحدة ..بعضها تباعد ..وبعضها تقارب ثم تباعد ..كانت والدة زوجي تحكي لي عن النسب بينهم وبين بعض الأسر ..في نهاية حديثها اكتشفت ان كلهم عبارة عن نسل اربعة اخوة ..تفرقوا في انحاء البطانة ..فانجب كل منهم قبيلة وبطونا ..كمثل هذه الدروب التي انطلقت من نقطة واحدة ..فتفرقت حتى صعب علينا معرفة اي منها ينجيك ..وأي منها يضيعك …
.. هززت رأسي وابتسمت ..كنت انظر لخطوط الطرق ..كأنهم اخوة نشأوا في بيت واحد ..لعبوا معا ..كبروا سويا ..هللوا لنجاحات بعضهم …رقصوا في زيجات بعضهم البعض ..فرحوا لكل صغير قادم ..ثم تشعبت الحياة واخذت كل منهم في طريق ..ذات اليمين وذات الشمال ..ترى هل يعرف الاحفاد ما كان بين اباءهم من صلة ؟؟
ضوء لاح من على البعد ..أشارت اليه سلفتي (زوجة حماي) قائلة (ما يكون دا أبو لمبة ) ..ضحكت انا بدوري وقلت لها (عندنا في الشمالية بنقول ليهو ابو فانوس) اسطورة الجن الذي يظهر لك ضوءا تتبعه ..فاذا هو مهلكك بالتأكيد ..حتى الاساطير والحجاوي هي نفسها ..تؤكد ان البشر اصلهم واحد ..لولا تشعب الطرق وتباعدها ..
توقفنا للسؤال ..فكان الرد (امش عديل ..تلقى الترس ..خلو وراك ..اعصر يمين لامن تلاقى الشدر ..هناك عديل لا تلف جاي ولا جاي ..تلقى نفسك في ود ساقرتة )..
تابعنا المسير ..وفي ذهني عبارة قرأتها على ظهر مركبة في الشارع العام قبل مفارقته (اخترت ..انت طريق طويل ..سكتنا ما بتوصلك )..(يتبع)