لبنى عثمان

القلب الأبيض


قالها: صباح الخير.. فأقبلت من بين شفتيه.. فاقت عبير الورد لدي.. بل أكثر.. هربت همومي من نوافذ غرفتي.. فكتبت: (يا قلبي قد جاءك العيد.. فعبئ دواخلك بفرحه وطقوسه.. اليوم ومع طلة ذلك الصباح الذي يحملك.. قد عاد لي قلبي وعادت ضحكتي.. فالروح عنده والفؤاد لديه..
بحضورك الصباحي الدافئ أنهى الشتاء إقامتي لديه.. فلا بيت يأويني.. سوى عينيك)..
سألتني صديقة: “هل القلب للحب فقط أم أنه يتسع للكراهية؟”.. أجبتها: “من يحب لا يكره”..
فقالت: “إن القلب الذي نعتبره مكانا حصريا للحب هو أيضا المكان المناسب للكراهية”.. ألا تلاحظين أننا حين نكره فإننا نقول: “اشمأز منه قلبي”؟.. أي أن العواطف الجياشة مصدرها القلب وكذلك الكره.. فالقلب هو المسؤول عن كل أنواع التعبير الخاصة بالحب والكره والخوف.. نسمع بمن يقول حين يخاف من شيء: “كاد قلبي يتوقف من الخوف” وكذلك: “فلان قلبه أبيض وفلان قلبه أسود” من الحقد والكراهية.. بمعنى أن القلب الذي يحب بقوة يمكن أن يكره بذات القوة..
سألتني: ما هو الأقرب للقلب.؟
فقلت: “الحب بكل تأكيد.. قد تجد من يحب لمدة خمسين سنة، لكن لن تجد من يكره لخمسين سنة.. فالكراهية في القلب عابرة.. حيث يكره القلب لفترة قصيرة، ثم يتجاهل..
أحيانا عندما نتساءل عن أمور ما.. فإننا نفتح على أنفسنا جروحا اندملت.. ولا ندري بأن تلك الجروح ما زالت تنزف، لكن بالحب.. وما زال القلب ينبض باسم معين.. وأن مشاعرنا تحيا بذكراه.. مهما حاولنا الهروب منها.. لكنها مصرة على البقاء في الداخل.. فمكانته ما زالت كما هي.. ونردد مبررات غيابه لأننا نعلم أن لديه رصيدا كافيا لأن نسامحه حتى من دون أن نعرف الأسباب..
وكثيرا ما نشعر بالحنين لاسترجاع ذكرياتنا الجميلة الدافئة للحب الأول.. فنحب الكلام عنه من القلب..
واستطردت صديقتي وهي تمسح دمعة بلون النار سالت على أحد خديها.. قائلة: إنه الإحساس الوحيد الذي لن يتكرر والمشاعر التي لن أجدها مرة أخرى في عمري.. لأني كنت أحبه وسأظل أحبه.. فالحب الذي يسكن أعماقي لم أعرفه إلا منه.. وسعادتي لم أتذوقها إلا معه، فهو الوحيد الذي استطاع أن يقرأني دون أن أتكلم.. هو من علمني معنى وتأثير لغة الصمت.. فسمعته وفهمته بقلبي وإحساسي وكياني.. كانت مشاعري ترفرف بأجنحتها في كل ركن من أركاني.. في كل زاوية من زوايا فؤادي.. كنت أشعر بأن أنفاسه تهيم معي في المنزل وتذهب معي لعملي وترافقني طوال يومي وتلازمني في أحلامي.. كانت فترة يتيمة عشت فيها كل تلك الأحاسيس.. لكن من قال إن المشاعر تقاس بقصر المدة أو طولها؟.. المشاعر تقاس بعمقها وتأثيرها.. ومشاعري تجاهه بالنسبة لي هي عمري.
عاودت الصمت مرة أخرى.. وكأنها تنفض بقايا غبار عن حياتها.. وانداحت مرة أخرى.. قائلة: لكم حاولت إخراج نفسي من بئر الأحزان، لكن رغم عني سقطت فيها.. حاولت نسيانه لم أتمكن.. فذاكرتي تدفعني للتفكير به.. حاولت أن أبحث عن سعادتي المشروعة فلم أتمكن.. حاولت أن أكرهه لم أتمكن.. فصورته عالقة في ذهني.. وصوته لا يزال يلاحقني وحنانه قابع في كياني.. ولم أستطع محوه من حياتي.. تأتي عليّ لحظات أكره فيها استسلامي وضعفي وعزلتي.. وأكره فيها كل شيء إلا (هو).. فهو الحاضر الغائب في كل تفاصيل يومي.. ومشاعري ما زالت معه وما زلت أستنشق عبيره في حياتي.. وما زلت رافضة أن أستيقظ من أحلامي.. أعرف أنها مشاعر قاتلة، لكني ألتمس لمشاعري العذر.. رغم كل أحزان العالم الذي تحيا بداخلي.. وفي لحظة تسربت تلك الذكرى وأصبحت أحتضن كلماتي.. أتألم.. أتمزق.. أحترق من الداخل لكني ولله الحمد.. استعطت أن أنطوي على ألمي وأكتم أنيني وتمضي حياتي بوجه مبتسم وصوت مرح مبطن بالأحزان.. وقررت أن أغلق باب اﻵلام وبنيت بيني وبين الحب قضبان حديد غير قابلة للكسر أو الانصهار.. بعد أن تأكدت أني لن أجد مفتاحا جديدا يفتح قلبي.
لوهلة تأملت كلماتها التي رتقتها بالحروف وصنعت منها تلك الحياة التي مرت بها وأجبتها بوجع: “ليتنا مثل الأسماء.. لا يغيرنا الزمن”..!
* نغمة:
الحنين بصدري ذكر من رحلو
من الأصحاب والخلان
وإذا غابو بما حملو
كانت ذكراهم في القلب تبتهل