رأي ومقالات

أمير تاج السر .. الكلام الطيب والشرير


منذ سنوات طويلة، وفي أيام البدايات، كنت أقف أمام جناح لناشر عربي معروف، في أحد معارض الكتب التي أحب زيارتها، وغالبا ما أقتني ما أريده من تلك المعارض، ويغنيني عن الزيارات المتقطعة للمكتبات. كنت أتأمل الكتب المرصوصة بصبر وأناقة، وأفكر في اقتناء كتاب لسليم بركات، أو جورج طرابيشي، أو واحد من كتب التراث التي لم أقرأها بعد، حين وقف بجانبي ناقد أعرفه منذ بداياتي الأولى، ولم يقل شيئا عن تجربتي، لا سلبا ولا إيجابا، وفي الغالب لم يقرأ منها شيئا. قال: هل تبحث عن مكان لاسمك هنا، ووسط كل هؤلاء الكتاب؟ لن يحدث ذلك أبدا، خذها مني ثقة. ثم انصرف، يمشي بخيلاء.
مثل هذا الكلام المؤلم، وبكل تلك الثقة واللهجة الفخمة المتعالية، ومن رجل ينقد الأدب، ويسعى لتطويره بالنصائح، واحتضان ما هو إبداعي، من أجل تنمية أدوات كاتبه، كما هو مفترض، يمكن بكل تأكيد أن يؤثر في كثيرين ممن بدأوا يسلكون الدرب، وما تزال الرؤية غائمة أمامهم. بمعنى أن هناك شيئا قدموه، لكنهم يطمحون في تقديم المزيد، وهناك من أضاء لهم شمعة، وينتظرون أن تضاء شموع أخرى. نعم، فكثير من الاهتزاز يحدث لهؤلاء، ويمكن أن يحدث لي أيضا وكنت في ذلك الوقت، أمشي في الربع الأول من الطريق، والرؤية ما تزال مهتزة، وثمة ضباب، أتمنى أن ينقشع. هذا الناقد لم يقدم خيرا نقديا، أي لم يكتب عن عمل ربما استحق الكتابة، وفي الوقت نفسه، لم ينأ بالشر بعيدا، ويترك الكاتب المؤمل أن يتميز، ويصل إلى قراء، ولو معدودين، في حال سبيله، يسقط وينهض، ويسقط وينهض، حتى يقف في النهاية، أو لا يقف على الإطلاق، المهم أن لا دخل لأحد في سقوطه، وربما هناك دخل ما، في وقوفه، إن وقف.
أنا أسمي هذا، ببراءة شديدة، وبعيدا عن أي ظن آخر: التعسف الإنساني، البعد بنوازع الإنسانية الموجودة في كل شخص، عن المواقف التي تحتاجها، والفرار بها إلى بعيد. وكانوا يتحدثون دائما عن الكلام الطيب، حتى لو لم يقابله فعل طيب، مجرد كلام حلو ورائع، يتذوقه المعني بالأمر، ولا شيء آخر، وتضرب الأمثال دائما في هذا الشأن، بأن اللــــوبيا الرخيصة، التي تقدم من شخص مبتسم، أفضل مئة مرة من خـــروف مذبــوح، يـــقــدم من شـخص مكشر. ولو قال الناقد هذا الكلام العابس، وكتب في اليوم التالي، مقالا عظيما، لما كان مقبولا منه قط.
حقيقة، وفي خلال تعاملي مع الإبداع والمبدعين، وحتى أنصاف المبدعين، وأرباعهم، لم أحس أبدا بأنني تميزت عن أحد، وأن لي دورا سألعبه ذات يوم، كنت أكتب فقط، وبدأب كبير، وكنت أقرأ أكثر في فترة ما، وقد سعيت لقراءة كل ما يمكن أن يفيد، في مشروع أصررت على أن يستمر، برغم المصاعب كلها، ولا أظنني استفدت كثيرا من قراءاتي، لكني استفدت. كان لي زملاء في الكتابة، بدأنا معا، واستمر هاجسنا معا، ومنذ كنت أتعاطى الشعر، تعاطيت تلك الصداقات الأدبية الجيدة، وهي بالفعل جيدة، إن كانت خالية من عقد الغيرة، ومليئة بالصفاء الروحي، واهتمام كل صديق أدبي، بنتاج صديقه، والسعي معه، ليتقدما معا. كنت أجلس في المقاهي، الشبيهة بمنتديات الإنترنت الآن، أستمع لعبارات الثناء التي يحظى بها نص فاشل لكاتب صديق، وألمح الانتشاء في عين الصديق الذي قطعا يأتي في المرة القادمة بأفضل منه. استمعت إلى إيجابيات كثيرة، وسلبيات كثيرة، ولم ألحظ ببراءة من يظن المبدعين أحرارا من كل نقص، أن هناك مؤامرات صغرى تحاك حتى في الضحك، والإطراء، والطرب الذي يتمايل مع الرأس حين الاستماع إلى قصيدة، وكانت تلك مزية كبرى، أنني لم ألحظ أي شيء، وإلا لتوقفت باكرا.
الكلام الطيب إذن، ثم الفعل غير الطيب، في الخفاء. فالذي يلتقط الأشياء الطيبة، ويمشي محتفيا بها، لن يتبادر إلى ذهنه، أن العكس قد حدث بعد ذهابه، وأن ما التقطه مجرد ابتسامات بلهاء، لم يقصد منها أي شحن معنوي، سيكون مشحونا معنويا بلا شك، وستستمر شحنته، وحتى لو كان ضعيفا سيقوى بتلك الشحنة.
في أحد الأيام، ونحن نجلس في مقهى مزدحم بالمبدعين، من كتاب وشعراء، ونقاد، ومعنا بعض السينمائيين المنشغلين بمسألة الاحتكاك بالمثقفين، بعيدا عن الأبراج العاجية، جاء ناقد من المبتدئين، يحمل صحيفة مطوية، وبها مقال عن شاعر كبير، كان يجلس معنا بطريقة توحي بأسطوريته. قال الناقد وهو يقتحم ضحكة خافتة أطلقها الشاعر: أستاذي هذا مقال لي عن كتابك الأخير، نشر اليوم.
الشاعر لم ينظر إلى الصحيفة، ولم يتلقفها بلهفة أو حتى ببرود، كما كان متوقعا، قال ونظراته بعيدة تماما، وربما تحدق في وهم بعيد: نعم قرأته، وكان أردأ مقال يكتب عن تجربتي حتى الآن.
الكلام المؤذي لموقف قصد منه السرور، الكلام الطيب للناقد المبتدئ، مقابل الكلام غير الطيب للشاعر غير المبتدئ، الشاعر الذي وصل إلى بعيد، وهناك مئات قرأوا رقته وصوفيته، ومواقفه الشعبية، الإنسانية، من دون أن يخطر في بالهم، أنهم قرأوا كلمات مصنوعة بحرفية، ولم تنبع من أي مكان فيه إحساس صاف.
كان سيكون الموقف رائعا، ومشحونا بمفردات الإنسانية كلها، لو أمسك الشاعر بالصحيفة، وقال: يا الله، كتبت عني؟ أشكرك فعلا، سأقرأ مقالك  بكل تأكيد. أو يشرع فورا في القراءة، ثم يهتف: شكرا.. شكرا، لقد أضأت تجربتي بحق.
المقال قد لا يكون إضافة، ولا جاء بأضواء جديدة، سلطت على التجربة، وقد اعتدنا قراءة مقالات كثيرة مكررة عن أعمال روائية أو شعرية، بعينها، ويدعي أصحابها، أنهم جاءوا بالجديد. لكن الكلام الطيب كان مهما، ومهما جدا، ليس من أجل الناقد المبتدئ فقط، ولكن من أجل الشاعر الراسخ أيضا، والذي أقلعت عن القراءة له منذ ذلك اليوم، لأنني كنت وما زلت مغرما بالإنسانية، وأتوقعها في من تفيض قصائده أو أعماله النثرية بها.
لقد غادرت جناح دار النشر، في ذلك اليوم، وثمة بذرة شريرة من الارتباك انغرست في معنوياتي، غادرت المعرض كله، وجلست بعيدا أفكر: هل من الممكن فعلا، أن لا أجد لي مقعدا وسط كل أولئك الكتاب؟ هل هناك أمل في شيء؟ وعدت في اليوم الثاني، وما زالت بذرة الإرتباك مغروسة، وازدادت اشتعالا، حين شاهدت الناقد نفسه، يقف مع كاتب مبتدئ آخر، لا بد سيغرس في معنوياته البذرة نفسها. لكن وبمرور الوقت، تعود الروح القتالية للمقاتل بلا شك، هذا شيء تعلمته من عملي الطبي، بعيدا عن الثقافة، لا شيء غير ممكن أبدا، وكنا نرتق المصارين الممزقة بالمدى المسنونة، والسيوف في مدن هامشية بعيدة عن التحضر، وليس فيها إمكانية لحشو ضرس مسوس، ويقوم المطعونون من موتهم، ويذهبون.
أعتقد وبكل ثقة، إن الذي يريد أن ينجو من فخاخ الكلام الشرير، عليه أن يبتكر كلاما شريرا شبيها، يكون على طرف لسانه ويرد به مباشرة، أو عليه في أسوأ الفروض أن لا يصبح مبدعا، وأعرف من قتلت إبداعه جمل هازئة كتلك، وابتعد تماما.

كاتب سوداني