داليا الياس

ضل الضحى


ممعنا في الهروب.. يزاور عن الشمس.. لينحسر سريعا قبل أن (تنجم) عند حدوده أجسادنا المنهكة وتستدفئ من لفح البرد القارس!!
تتناقل الألسن حكاياته ليصبح مضربا للأمثال يدلل على سرعة الرحيل قبل اكتمال العشم وقلة الفائدة!!
أن توصف بأنك (ضل ضحى) فذلك يعني أن إحباطا عظيما قد طال الآخرين منك.. وأن خذلانهم فيك كان أكبر مما توقعوه منك.. وأنك كنت _ برغم قامتك السامقة فيهم _ متقاصرا عند الحاجة!
فكم عدد المرات التي ركضت فيها صوب جدار بعيد لتحتمي به وتركن إلى ظله الظليل فباغتك الأخير بسرعة الرحيل؟!!
ما أشبه ذلك الظل الشهير بالسراب.. يحسبه الظمآن ماء حتى إذا ما هرع للارتواء عاد وهو يبتلع ريقه المالح ويمسح العرق الغزير عن جبينه!!
ورغم إدراكنا ووعينا لماهية (ضل الضحى) نظل على مدى طريقنا نبحث عنه.. وكلما غشتنا لسعات البرد تلفتنا بحثا عنه.. ونظل مولعين به، يعترينا فرح غامر حالما لاح لنا.. ونتسابق لنتفيأه بحبور.. نتكئ على جدرانه ونفرك أيدينا بسعادة.. نسترخي ونتنهد ونحلم.. يتمدد الدفء في أوصالنا فيضج الدم في عروقنا بالحماس.. نضحك ونتسامر ونحن نلتفح ثيابنا الرقيقة.. نطلق زفيرا حارا يخيم بموجبه الضباب على أجوائنا المحيطة.. ونستنشق أكسجينا باردا يرطب دواخلنا لحين، ويخفف لهيب وجداننا القديم المتأجج بالشوق!!
ثم.. تنتهي الحكاية، نلملم أطرافنا على مضض.. ونجرجر أذيال الخيبة استعدادا لمواجهة رياح (أمشير) الضاربة دون ساتر.. تحوطنا من الجهات الأربع وتعبث بنا وبأشيائنا.. يناوش رملها أجسادنا بسهامه الحادة.. ويهجم على أعيننا فنعمد للإغماض.. ترتبك خطانا.. وربما نتوقف قليلا عن المسير حتى انحسار تلك (الدوامة).. نردد بصوت واهن: (محمد جانا ما تغشانا) في إشارة لكون تلك (الهبوب) السريعة الغاضبة ضربا من عمل شيطان مريد، نحرص على تذكيره أننا أمة محمد صلى الله عليه وسلم المسلمة، عساه لا ينال منا ويولي هاربا من الخشية والتبجيل!
هكذا تظل حكاياتنا مع بعض من اصطفتهم أرواحنا ليظللوها كالغيم.. ويحتووها كالملاذ.. ويرطبوها بالرذاذ.. سرعان ما نكتشف زيفهم وقصر عمر ولائهم وأحاسيسهم النبيلة!
سرعان ما يسلموننا للأسى والندم والخوف.. ويزرعون بأعماقنا (عقدة) صعبة الفكاك من الآخر.. فيحيلونا لركام إنسان.. يكابد كل يوم جراحه النازفة واهتزازه الداخلي ونفسياته المتقلبة!!
ولن تجدي كل النصائح الاحترازية.. ولن تفيد كل الأقاصيص والنماذج التاريخية.. فلابد أن تعبر التجربة وحدك.. لتتعلم كيف يمكنك أن تختار أولئك الذين تسلمهم روحك ومالك وأحلامك دون أن يغرروا بك ويخدعوك ويسلموك للحاجة والحيرة والنكران.
ولكن مبدئيا.. احترس أكثر من الأقربين.. إنهم لعمري بوابة الوجع الأولى.. ولا تحسبن أن صلة الرحم ستقيك شرور الحسد والاحتيال.. ربما تشعل جذوتها أكثر.. ولا يطفئها كل ما تبذله من عطاء ومودة وتقدير!!
تلويح:
لا تثق في (ضل الضحى).. فحتى الشمس تلاحقه بغضبها وترغمه من فرط خذلانها فيه على الرحيل!