منى ابوزيد

ماركات سودانية مسجلة ..!


“خبز الوطن خير من كعك الغربة» .. فولتير ..!
٭ من المناظر المألوفة في كل مطارات العالم، منظر (شوّال) الطلح وهو (مبطوح) على ظهر حاوية الأمتعة، يتوسط حقائب وطرود أخرى من كل أصقاع العالم، بل ويزاحمها بكل ثقة بالهوية، وبمنتهى الاطمئنان إلى كونه حاضراً بكل ثقله في المكان الصحيح .. (شوال) الطلح السوداني جندي بإمكانات (رامبو) يوجد في كل التضاريس ويخدم بكفاءة من كل الثغور، ويؤدي واجبه من خلال أي منفذ متاح وبأقل العوامل – المناخية – الملائمة ..!
٭ ربما لأن السوداني من أكثر المغتربين تشبثاً بطقوسه وتقاليده، ولا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن تقتلعه من جذوره التي يحمل كل خواصها معه، في حال تعذر وجوده الفيزيائي بالقرب منها .. وما أن يودع المغترب السوداني أهله وذويه حتى يدرك بأنه قد اختار التخلي طائعاً أو مكرهاً عن الاستمتاع بممارسة الكثير من العادات المحليَّة المتوارثة منذ عهد آبائه الأولين، والتي يفترض هو أنه سوف يساهم بدوره في نقلها (كما هي) إلى أبنائه الآخِرين ..!
٭ لذا فهو يحاول في أثناء إقامته في الخارج – والتي قد تمتد إلى عقود من الزمان – أن يصنع من كل الأيقونات السودانية نسخاً (تايوانية) مهما كلفه ذلك من عناء، وإن تطلَّب الأمر محاولات مرهقة لخلق أجواء اصطناعية .. الأمر الذي قد يعني – بعبارة أخرى – ثمناً باهظاً يدفعه بكل سرور فقط حتى لا يأتي يوم ينسى فيه أنه ابن الحوش الكبير ..!
الغريب أن هذا الإصرار البالغ على التشبث بالهوية السودانية لا يظهر من خلال مواقف سياسية أو اجتماعية داوية بقدر ما يتجسد في تفاصيل حياتية عادية عندنا، غريبة ومحيرة عند غيرنا من الشعوب الأخرى ..!
فـكل من يعاشر أسرة سودانية مغتربة – في أي بقعة من بلاد الله الواسعة – لا بد أن يمر مرور الكرام، إن لم يحتك بالثالوث السوداني الشهير أو يصطدم بأحد أضلاعه الأزلية (أعمدة الدخان المتصاعدة من ألواح الطلح .. طبخة الكمونية بضفائرها الغريبة .. وأسرة النوم التي تتوسط غرف الاستقبال)..!
٭ قد يتعرف الغريب على تلك الأيقونات السودانية، ثم تكون النتيجة أن يستحسن مذاق (الكمونية) أو أن يتفهم منطلقات الإصرار على وجود السرير في غرف الضيافة، أو أن تعجبه فكرة (الدخان) كضرب من ضروب (الساونا) .. وقد يراها عن كثب ثم يبقى على استنكاره أو امتعاضه منها ..!
٭ السر في بقاء ذلك الثالوث الفلكلوري والتصاقه بالمغترب السوداني أينما حل وارتحل هو قدرة المغتربين الهائلة على تطويع الظروف المحيطة في بلاد الناس – مهما بلغت صعوبتها – للاحتفاظ ببعض الرموز الوطنية الجامعة ..!
٭ حتى إن كان المكان ناطحة سحاب في بلاد (الواق واق) لن تعدم المرأة السودانية الحيلة في إشعال الحرائق، وقد يصادفها أحد (المهجومين) من غرابة هذا الشعب الذي (يشبه روحه) وهي تستقل المصعد إلى الطابق العشرين وهي تحمل – باعتزاز – واحداً من تلك المقاعد الخشبية التي تتحايل بها الزوجة المغتربة على عدم وجود (الحوش) ..!
٭ أو قد يوجد ذلك (المهجوم) في ضيافة أسرة سودانية تتمسك بكل قواعد الأناقة والرقي ثم تصطدم عيناه المذعورتين بطبق الكمونية – برائحته النفاذة – وهو يجلس القرفصاء في منتصف المائدة .. أما (السراير) المفروشة بملايات وأكياس مخدات ومساند بألوان زاهية، فلا بد أن (تتحكَّر) بين أطقم الجلوس في غرف الضيافة النسائية، مهما بلغت فخامتها، لتكون الذكرى التي تخرج بها أي ضيفة (غير سودانية) من ذلك البيت السوداني (المعجون بذكريات الحوش .. والحلة .. ولمات العصاري) هي علامة استفهام ..!