منى ابوزيد

مأزق وجودي ..!


«الإنسان – بأفعاله – يُشَرِّع للآخرين» .. سيمون دي بوفوار ..!
* انشغل الرأي العام السعودي – قبل فترة – بقضية اجتماعية صدر فيها حكم قضائي بوجوب التفريق بين زوجين لعدم الكفاءة في النسب، حينها استوقفتني كثيراً آراء بعض الكتاب والسياسيين والمثقفين الذين تحدثوا عن ضرورة تثقيف الناس بشأن التحقق من كفاءة النسب قبل الزواج، وأسهبوا في التنديد بغياب دور المؤسسات الدينية والتربوية في تنوير المجتمع قبل أن يتورط البعض في ذات المصير، دونما أي إشارة إلى ملامح السِّعة في الجدل الفقهي المثار حول الحكم القضائي نفسه. وقتها توقعت من بعضهم – على الأقل – أن يجتهدوا في إثارة الأسئلة المشروعة المتوقعة حول نهج اجتماعي متعسف يقضي بتمزيق الأسر المطمئنة بحجة عدم كفاءة النسب، لكنهم صمتوا جميعاً مجاراةً لسطوة العرف، وهو نهج فكري شائع عند المثقف العربي عموماً، حينما يجد نفسه محشوراً بين سطوة العرف وسلطة التقاليد ..!
* على أن المسألة ليست محصورة في المجتمعات العربية الخالصة كمجتمع السعودية، بل تمتد المفكرة لتشمل الأعراق والانتماءات المتباينة داخل حدود السودان نفسه، ومن طرائفنا المحلية في هذا الشأن أن السياسي الراحل محمد إبراهيم نقد، مؤلف كتاب “علاقات الرق في المجتمع السوداني”، قال ذات حوار إنه يرضخ ـ أيضاً ـ لسطوة العرف في هذا الشأن، وحينما سئل – رحمه الله – عن مسألة العنصرية في الزواج السوداني، قال “لو جاءنا خاطب لإحدى بناتنا سنسأل عن أمه وأبيه ونمشي إلى حبوبته أيضاً” ..!
* أذكر أن الروائي والقاص السعودي الفذ يوسف المحيميد حدثني جيداً عن دور كتاب “علاقات الرق في المجتمع السوداني” في الإعداد لروايته (فخاخ الرائحة) ذائعة الصيت، والتي نبشت مسألة الاستعلاء العرقي في السعودية، وكيف أن الصور والوثائق الملحقة بالكتاب قد أدخلته تماماً في عالم الجلاّبة .. وبيوت القطاطي .. وأسماء الرقيق .. وصفاتهم .. وأوضاعهم المذرية .. وطريقة تقييمهم عند البيع .. وطرق استيرادهم وتصديرهم إلى الجزيرة العربية، حيث مسرح روايته التي جاء أحد أبطالها من السودان. ورغم ذلك يعترف مؤلف الكتاب نفسه بأنه يعيش هزيمة المثقف أمام سطوة العرف في شأن الزواج، فيتخلى عن أفكاره الاصلاحية ورؤيته العادلة للذات الانسانية على إطلاقها، ثم يمشي طائعاً مختاراً إلى جذر الجد وأصل “الحبوبة” إذا لزم الأمر ..!
* خلاصة القول أن الثقافة في معناها هي حزمة من العقائد والمعارف والفنون والأخلاق والقوانين والعادات، والريادة في مبناها هي التشريع للآخرين من خلال الشجاعة في تبني المواقف والخيارات، وأن المثقف يعتنق ويَشرَح، بينما الرائد يفعل ويُشرِّع. وما يزال باب النسب والمصاهرة في السودان هو المدخل الوجودي الوحيد الذي يعبر منه المثقف عارياً عن فكره، متجرداً عن ثقافته .. وهذا – بكل أسف – هو جوهر الفرق بين الثقافة والريادة ..!