مقالات متنوعة

ابراهيم عثمان : الحزب الأحمر والفكر الرمادي


ككل كائن حي تحاول النظريات التشبث بالحياة و بالذات عند المحكات ولحظات الإحتضار ، قد تلجأ لإستراتيجية الكمون أو تغيير الجلد أو حتى التغليف بجلد خارجي مستعار يحمي جسد النظرية ويستر عدم ملاءمتها للواقع الخارجي ، و يجنبها الإحتكاك المباشر مع واقع خارجي جهازه المناعي متحفز ومستثار ، ويحاول أن يخلق غلاف أو غلالة مواءمة سطحية لمجاراة الواقع بمحاولات منافقته أو للدخول إليه من أبواب أخرى بعد الفشل في الدخول عبر الباب الأصلي ، لذلك تلجأ إلى تعويض نقص المقبولية بإقتناص الفرص و الإستتار خلف قضايا أخرى لم تكن من صلبها ، فتلجأ مثلاً إلى الإعتماد على التناقضات الجهوية والعنصرية بعد ثبوت فشل الإعتماد على الصراع الطبقي كرافعة وحيدة ، تتعدد الروافع و يتم إستخدام قضايا أو تناقضات يُظٓن أنها حية أو قابلة للإحياء لإسعاف النظرية الميتة واقعاً أو المحتضرة بإعتراف أصحابها ، فالإعتراف قد يعبر عنه العمل أكثر من اعتراف اللسان ،نعم سيظل إعتراف ضمني ، ولكن العمل يعطيه قوة الإعتراف الصريح بفصاحته ووضوحه بشهادته بأن كل تفاصيله هي تعبير عن محاولات إنعاش لمحتضر لا ترويج لمنتصر أو آمِل في الإنتصار بشحمه ولحمه الأصليان . في عهود الصعود والزخم وما وفره وجود الإتحاد السوفيتي كقوة عظمى من دعم متعدد الأشكال كان الطموح هو تنزيل النظرية بصيغة راديكالية جذرية رغم محاولات المواءمة وإكراهات الواقع المحلي وإلزاماته ، ولكن مع تهاوي النموذج في موطنه الأصلي ، ومع تطاول السنوات دون تحقيق انتشار جماهيري كبير يضمن حصة مناسبة من السلطة والتأثير السياسي العام ، لجأ الرفاق إلى تكتيك تغبيش الإلتزام الأيديولوجي و إلى تعديل الهدف من العمل على تنزيل النظرية إلى العمل الدؤوب لإفشال نقيضها ، لذلك تحرر الحزب نسبياً من الخطاب الأيديولوجي حاد القسمات ، ولجأ إلى التغليف الواجهاتي والشعاراتي أملاً في الولوج إلى الساحة السياسية والتأثير على الشأن العام بما يفوق بكثير قدرات الحزب . النظرية المجهضة المهزومة تحاول الإنتقام من المجتمع والواقع الذي أجهضها بصناعة الحروب والأزمات ، إذ لا سبيل إلى خلخلة ما استقر في وجدان الشعب من كراهية فطرية للشيوعية إلا بخلخلة حياة الشعب نفسه وتكديرها و صناعة مظلوميات يظنون أنها ستقوم بمهمة تجسير الهوة بين فكرهم و الجماهير.
الرمادية المزيفة أو المختلسة لم تعد عند الشيوعيين مجرد خيار بل أصبحت ضرورة قصوى ، ما داموا لا زلوا يعاندون محاولات الإصلاح وتطوير فكر الحزب والإنفكاك من قيود الماركسية التي شبعت موتاً في موطنها الأصلي. فالإصلاح الحقيقي المعبر عن قناعات حقيقية كان سيغنيهم عن التلبيس وسيجعلهم يسوقون بضاعتهم الأصلية الجديدة التي بالتأكيد سيخضعونها لدراسة جدوى قبل طرحها ، فالطلب في السودان للبضائع السياسية معادلاته معقدة لكل من يطرح بضاعة لا تنسجم مع الذوق العام . البضاعة الماركسية عدا عن الإلتباس الذي يحيط بموقفها من مكون الهوية الرئيسي المتمثل في الدين فهي أيضاً محاطة بتجريدات و رطانة أيديولوجية لا سبيل إلى تسويقها لدى غالبية الجماهير ، فالثقافة الكامنة وراء هذه السلعة ثقافة غامضة و ملتبسة وموقف المروجين أنفسهم منها هو ذاته ملتبس ، فطيف المروجين يمتد من المؤمن بكل الفلسفة الماركسية بما فيها من مادية وإلحاد ، إلى من يقول بأنه يؤمن فقط بالجانب الإقتصادي منها ،وبين هؤلاء و أؤلئك طيف من المواقف المتدرجة قولاً و المتطابقة أو شبه المتطابقة فعلاً و هذه الضبابية تشكل عائق فوري أمام أي بضاعة . و الغريب أن جزء كبير من جهود الشيوعيين ينصرف لإثبات أنهم لا يبيعون للناس البضاعة الأصلية ( المادية ) ! فهم تقريباً يكادوا أن يسلموا مع عامة الجمهور أن البضاعة الأصلية فاسدة ! أو في الحد الأدنى تحتاج لأن يُزال منها بعض الأجزاء الفاسدة لكي تصلح للإستهلاك السوداني ! و المعضلة أن هذه الأجزاء ليست هامشية و لا في الحواشي بل هي في متن البضاعة /النظرية ، و أنها لا تصادم الحواشي في ثقافتنا بل المتن ! ولذلك هناك تقصير متعمد في ترويج البضاعة الأصلية لما في ذلك من خسائر محققة ، و بدلاً عن ذلك يتم التركيز على التسويق العكسي الذي يصرف جل الوقت و الجهد في بيان عوار البضائع الأخرى . و يخفى عليهم أن التسويق العكسي مردوده الإستراتيجي ضعيف طالما أن الحرب مموهة و تستهدف الخصوم في ذواتهم تاركة أصل فكرتهم ( معظم جهود الشيوعيين في خطاباتهم الموجهة للعامة تركز على إنحراف خصومهم عن مبادئ الدين دون تعرية نقدية صريحة لأصل هذه المبادئ ) . و المفارقة المثيرة للسخرية هي أن هناك علاقة عكسية بين قوة الإلتزام بالفكرة لدى الفرد الشيوعي و بين قدرته على ترويج الفكرة ، فالشيوعي الملتزم بفكرته ( بكل جوانبها ) و الذي يجاهر بذلك يخلق حاجز فوري بينه و بين الجماهير ، على عكس خصومه من التيارات الإسلامية المختلفة فالعلاقة هنا طردية بين قوة الإلتزام بالفكرة و بين القدرة على ترويجها . و لذلك يجتهد بعض الشيوعيين في ترويج أن ماركسيتهم مسودنة و متصالحة مع الدين ( ما التزم حدوده الدنيا كما يحددها العلمانيون ) .
مجهودات ضخمة لم تفلح في تبيئة الماركسية وتوصيلها بسلاسة إلى المجتمع السودان ، فكان لزاماً على أنصارها البحث عن وسائل لمعاشرات وتضامنات تتوسل بعض القضايا الفرعية لتفادي المقاومات التي وجدتها النظرية بوجهها العاري الصريح، لذلك كان الخيار هو تقنيعها و إلباسها حجاب متعدد الطبقات يتوسل العنصرية والجهوية بدعوى مقاومتها ، مع تقديم تنازلات جوهرية مؤلمة لبعض الداخل وللآخر الخارجي (الإمبريالي كما كانوا يسمونه سابقاً ) ، حيث قطع أصحاب الماركسية مسافة أيديولوجية كبيرة للإلتقاء والتصالح مع الإمبريالية ومحاولة توظيفها لخدمة المشروع بعد أن وجدوا طريقاً الى تبني قضايا تثير شهية الإمبرياليين و تستجلب تعاطفهم ودعمهم ،فكان شعار الهامش والمركز هو البديل لمقولة الصراع الطبقي ،رغم أن الأول حظوظه في النجاح لا تختلف كثيراً عن حظوظ الأخير، فللشعارين مشكلاتهما ، ولكن تظل الإمكانية (النظرية) لتحقيق انتشار أكبر هي لمقولة الصراع الطبقي فهي على الأقل تستطيع أن تكسر حواجز الجغرافيا للإمكانية النظرية لإشتغالها أفقياً على طول القطر ، ففي كل ركن من أركان القطر ستكون هناك إمكانية للحديث عن تفاوت طبقي ( أيضاً إمكانية نظرية ومحدودة الأثر للعلل البنيوية التي تلابس أصل النظرية ) . إذن تخلى الرفاق عن مقولة الصراع الطبقي أو قل همشوها لمصلحة مقولة الهامش والمركز ، ولعل أحد مسببات ذلك – بجانب الإستتار وراء قضية يظنونها أكثر قابلية للتأثير – هو أنك عبر مقولة الهامش والمركز يمكن أن تقتحم عوالم جديدة ،و توظف السلاح لخدمة توجهك ، إذ تنعدم إمكانية إشعال حروب فعلية عبر الصراع الطبقي ، وتنعدم إمكانية جلب الدعم الخارجي (الإمبريالي) لهكذا حروب ، فلا الجغرافيا تسمح إذ لا يوجد فرز طبقي واضح يجعل البروليتاريا تكون معزولة في أماكن محددة تتوفر فيها لوجستيات الحروب ، ولا الخارج الغربي سيجد في حروب تُخاض تحت شعارات الشيوعية الصريحة ما يغريه بدعمها . لذلك يمكننا القول أن الحزب الشيوعي وواجهاته عندما ثبت لهم عجز مقولة الصراع الطبقي عن الإشتغال و توفير مورد رزق سياسي حقيقي يضعهم على الخارطة السياسية تدخلوا وعملوا على ( جهونة ) البروليتاريا ، فبعد أن كانت حسب تحليلهم تمتد أفقياً على طول القطر ، أصبحت بروليتارية جهات طرفية ضد مركز ، رغم أنهم يحاولون أن يُبقوا على بعض ملامح الخطاب القديم أملاً في عدم خسارة البروليتاريا الموجودة خارج مناطق الحروب .
وقد كشف د. عبد الله علي ابراهيم عن محاولات مواءمة مبكرة للحزب الشيوعي بعد أزمة حل الحزب حيث جاء في أحد مقالاته : (…. وهكذا نجد الإسلاميين تعثروا بالماركسية عن تجربة طويلة فظة بينما يتنصل أهلها التقدميون عنها بوصفها نظرية ضليلة. والسبب أنهم لم يستمعوا إلى قول الحزب بعد تلك النكسة. وكان قال لهم إن العزلة التي فرضها الرجعيون علينا بحل الحزب تستنفرنا أن نتعمق هذا الدين وندخل بالماركسية على معانيه الغراء نجددها ونستصحبها إلى قلوب المسلمين وعقلهم. وقال إن هذه معركة لا يجدي فيها الدفاع بل الهجوم الذكي النير. وكون لجنة للدين لموالاة ذلك الواجب. ولكن تراخت الهمم. وهكذا صار تحلل الماركسيين من الماركسية هي طريقهم الوحيد للاقتراب من تحدي استصحاب الدين فراراً منه. وهذا موقع دفاع لا هجوم حيال حقائق الدين وسياساته كما أراد له الحزب ) وإن كان في هذا المقال يقصد الذين هجروا الحزب والنظرية ، فإن من بقوا في الحزب قد لجأوا إلى المواءمات الجديدة السالف ذكرها في صدر المقال بعيداً عن العلاقة مع الدين التي كانت هي مشكلة الحزب الأساسية في الستينيات ، ويبدو أن الحزب قد استسلم وسلم بأن الدخول إلى الجماهير عبر مواءمات من هذا الباب لن تجدي ، وانخرط في المواءمات الجديدة رغم عيوبها وخسائرها المحققة ولكنها تتمتع بإمكانية المراوغة والتخفي ، ولها إمكانية التحقق الذي يمكن قياسه ، فالعنصرية والجهوية وخطاب الهامش والمركز قد أفرز حروب و صنع حركات يمكنها أن تتفاوض وتنال بعض المكاسب ولو على حساب الدمار والخراب الذي تسببه الحروب عكس الصورة الصادمة التي تعبر عنها عبارة د عبد الله : ( استصحاب الدين فراراً منه ) ، والتي تكشف عن رمادية نفاقية كانت ضمن خطط قيادة الحزب ولكن ( تراخت الهمم ) ربما لأن العلاقة مع الدين نقطة حساسة ملتبسة لن تمر الخطط بشأنها بسهولة التعامل غير المباشر مع الإمبريالية ( عبر الواجهات ) كما يحدث الآن .
ابراهيم عثمان