تحقيقات وتقارير

“العشاء الأخير” سيكون المؤتمر الوطني سعيداً وهو يرى حلف خصومه يتهتك وبعضهم يأتي على وجل للقاعة التي يشير إليها أمبيكي.. لكن هل هذا ما يريده من خططه الإصلاحية


عندما أذاع الرئيس البشير خطابه الذي أُصطلح عليه إعلامياً بخطاب “الوثبة”، كان من أكبر مكاسبه بالنسبة للحزب الحاكم بجانب تهدئة الشارع، ذلك الانقسام الذي طرأ على فصائل المعارضة حيث قبلت بعضها المبادرة الرئاسية بينما استعصمت أخرى بشروط لم تبارح حد الأدلاء بها في طاولة التفاوض، لكن عندما أتت الحكومة بسلوك مناقض لدعوتها، وفقا لما رأته فصائل المعارضة، كانت جل تشكيلاتها قد توحدت بصيغة بدت وكأنها أعظم من صيغة أسمرا الوحدوية في مواجهة خصمها الإنقاذي قبل أن تعود مرة أخرى للتشتت عندما عاد الحزب الحاكم للتعاطي بمرونة مع عملية الحوار المتعثرة وهو يوقع مع فريق أمبيكي على خارطة الطريق التي ذمها بعضهم علنا ومدحها آخرون سراً.

المفارقة التي غطت على سير عملية الحوار أن المعارضة تتفرق عندما يبدي المؤتمر الوطني جدية نسبية إزاء مبادرته ما بين مصدق لها ومكذب وتتحد عندما يلجأ لسيرته الإنقاذية الأولى حيث كان الانقسام جلياً في 27 يناير 2014 حينما حضر المهدي والترابي وغازي إلى قاعة الصداقة للاستماع للخطاب الرئاسي بينما غابت بقية الفصائل وعابت على رفاقها الحضور.

لكن المؤتمر الوطني “تنصل” كما تقول المعارضة عن تعهداته التي جاءت في شكل قرارات رئاسية أطلقت للقوى السياسية فضاءات العمل الحر في أبريل من ذات العام، وذلك من خلال اعتقاله المفاجئ للمهدي رغم كونه الأكثر دفاعاً عن نهج الحوار أو نموذج “الكوديسا” كما تفيد نشراته متبوعاً باعتقال زعيم حزبي آخر هو إبراهيم الشيخ الرئيس السابق للمؤتمر السوداني وسط حملة طالت أيضاً عدداً من كوادر المعارضة ولم تغفل الصحف.
كان من شأن ذلك أن طوت فصائل المعارضة ذلك العام وهي تتواثق على “نداء السودان” الذي خيرت فيه خصمها ما بين القبول بحوار “جاد ومتكافئ” أو انتظار انتفاضة على غرار الانتفاضتين اللتين أطاحتا بحكومتين عسكريتين من قبل.
وما زاد من تماسك المعارضة وتفضيلها مجتمعة لخيار الانتفاضة على خيار الحوار هو رفض الحزب الحاكم المشاركة في الاجتماع التحضيري الذي كان مقرراً له مارس 2015 وذهابه منفرداً لتنظيم الانتخابات واكتساحها.

في تلك الفترة كانت حجج المعارضة تتمتع بوجاهة عند فريق أمبيكي وحشود المبعوثين الدوليين الذين أعياهم حجم الشقاق بين الخصمين، لكن تغير الحال عندما تلبست الحكومة مرونة في مارس الذي تلا مارس تغيبها عن الاجتماع التحضيري وهي توقع على خارطة الطريق التي طرحها فريق الوساطة الأفريقي ودعمها المبعوثون الدوليون بمعزل عن فصائل المعارضة التي رفضتها.

حينها كانت الحكومة، ولا تزال، تنظر بعين الرضا إلى تلك الضغوط التي أقر قادة المعارضة أن المبعوثين الدوليين شهروها في وجوههم لكيما يوقعوا على الخارطة، وبالطبع كانت هذه الضغوط ضمن عوامل أخرى جعلت بعض التشكيلات أقل رفضاً إن لم يكن ميلاً حذراً للتوقيع على الورقة المدعومة دولياً من آخرين لا يزالون عند رفضها ووضعتهم الظروف رغم الفوارق الآيديولوجية في معسكر مجموعة أخرى ترفض بالأساس عملية الحوار ولا ترى حلاً للأزمة الوطنية خلاف “إسقاط النظام”.

الملاحظ أن الفترة الفاصلة ما بين توقيع “نداء السودان” وخلط المؤتمر الوطني للأوراق وتشتيته للمعارضة بالتوقيع غير المتوقع على خارطة الطريق وهو ما عزاه البعض إلى تحولات غير معلنة لدى الحزب الحاكم في تعاطيه مع المجتمع الدولي أو بمعنى أدق واشنطن، الملاحظ أن هذه الفترة لم تشهد هيكلة فعلية لـ”نداء السودان” رغم وحدته النظرية وهو أمر ربما يعود على الأرجح إلى طبيعة التحالف الناشئ – أو الذي كان ناشئاً – حيث يتشكل بالأساس من تحالفات أخرى.

مع استبعاد مجموعة منظمات المجتمع المدني الموقعة على النداء لقلة تأثيرها مقارنة بمراكز القوى المؤسسة للتحالف فإن فصائل قوى الإجماع الوطني لم تكن على وفاق بشأن عملية الحوار حيث يؤيدها البعض بتحفظ مثل المؤتمر السوداني وآخرون أكثر تحفظًا مثل الحزب الشيوعي مقابل مجموعة ترفض الحوار شكلاً ومضموناً مثلما هو الحال عند حزب البعث الذي لا يرى ذرة مصداقية لدى الحزب الحاكم تسند الانخراط معه في حوار لحل أزمات يرى أنها من صنع يديه.

بالنسبة للجبهة الثورية التي تشظت إلى تيارين غير متساويين بعيد توقيعها على نداء السودان في خضم نزاعهما على رئاسة التحالف العسكري فإنها وقعت أصلاً على النداء بمعزل عن واحدة من حركاتها الرئيسية هي حركة عبد الواحد محمد نور الذي امتدحه مؤخراً متحدث باسم حزب البعث لتماثل موقفيهما من العملية السياسية رغم الفوارق المذهلة بين مرجعية كليهما.

وبالطبع أدى عدم تماسك كل من تحالف قوى الإجماع والجبهة الثورية إلى عدم تماسك نداء السودان والذي تجلى أكثر هذه المرة برفض الحزب الشيوعي المشاركة في اجتماع باريس الذي من المنتظر أن يكون قد التأم مساء أمس الإثنين رغم مشاركاته السابقة في اجتماعات مماثلة.
عندما قبلت بعض القوى السياسية المشاركة في اللقاء التشاوري الذي دعا إليه أمبيكي في مارس الماضي وتمخضت عنه خارطة الطريق رغم استجابة الوسيط الأفريقي لشروط المؤتمر الوطني بعدم مشاركة بقية القوى خلافاً للتحايل على لافتة المناسبة بتحويلها من “اجتماع تحضيري” إلى ” لقاء تشاوري”، عندما قبلت المشاركة كان بوسع هذه التنظيمات إنكار خلافاتها مع بقية حلفائها لكن خلال الاجتماع الباريسي لا يمكن تعويض النقص بإنكاره وهو على بينونة كبرى.

ستدخل الفصائل الاجتماع وبعضها ينظر لزعيم حزب الأمة الصادق المهدي بوصفه داعما للخارطة ولم يأت للاجتماع إلا لحملهم على توقيعها ومن مقاعد أخرى على الطاولة ستنظر حركتا جبريل إبراهيم وأركو مناوي لقطاع الشمال بأن له تفاهمات مع قوى دولية أوعزت له بالمضي قدماً لإنهاء الحرب في المنطقتين دون ربطها بالقضية الدارفورية حيث جاءت من هنا تفسيرات الحركتين الضمنية بجانب حركة نور لما اعتبروه محاولة متعمدة من القطاع لتمزيق منفستو الجبهة الثورية وهو يفتعل النزاع على رئاستها ومن هنا أيضًا يمكن فهم لماذا ذهب جبريل ومناوي إلى الدوحة منفردين بعد قطيعة وتنكيل بالوساطة القطرية.

بهذه الحيثيات سيبدأ المجتمعون تجمعهم وينهونه بلغة متزمتة دون الاتفاق على تناول العشاء على طاولة واحدة ناهيك عن التوصل لاتفاق بشأن الخارطة وحتى لو تناولوه سيبقى “العشاء الأخير” على كل حال.
وبالتأكيد سيكون المؤتمر الوطني مبتهجاً وهو يرى حلف خصومه يتهتك وبعضهم يأتي على وجل للقاعة التي يشير إليها أمبيكي، لكنه يبقى مخطئاً كما أخطأ من قبل لو اعتقد أن تفرق مناوئيه يعني حلاً لأزمته التي صادق بنفسه على خطط إصلاحية لتداركها ولم يكن خطاب الوثبة سوى صفحة من صفحاتها التي اضطرته إليها “هبة سبتمبر” كما ترد في أدبيات المعارضة.

الخرطوم – محمد الخاتم
صحيفة اليوم التالي


‫2 تعليقات

  1. صياغه العنوان غير مفهومه مثلا” ماذا تعنى هذه الجمله فى العنوان /
    لكن هل هذا ما يريده من خططه الإصلاحية