مقالات متنوعة

د. عارف عوض الركابي : بين (الجهاد الشرعي) و(جهاد الدواعش) «4»


تصدّرت عناوين بعض الصحف يوم الخميس الماضي تصريح سعادة وزير الداخلية بشأن عدد المنضمين إلى (داعش) من بلادنا .. كما تضمّنت العناوين خبر مقتل أحد المنضمّين إلى (داعش) في ليبيا، وقبلها بأيام كان خبر مقتل فتاة سودانية في (العراق) ، رأيت أن أكرّر التنبيه ببيان الجهاد (الشرعي) الوارد في الكتاب والسنة، والذي استوفى بيانه فقهاء المسلمين في مدوناتهم الفقهية فأقول: من المعلوم أن انحرافات هذه الجماعة في جوانب متعدّدة ،إلا أن الجانب الذي يحصل به غالباً التغرير ببعض الشباب واستدراجهم به هو جانب «الجهاد» ومقاتلة الكفار، ومن له أدنى معرفة بفقه الجهاد في الإسلام وفق النصوص الشرعية والمقاصد المرعية يعلم ضلال «الدواعش» ومن نحا نحوهم في هذا الباب، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام وفضله عظيم ولا يخفى ذلك لعامة المسلمين، لذلك وجب التفريق بين بيان ضوابط الجهاد وشروطه وتوضيحها، وبين الحديث عن فضل الجهاد ومشروعيته ومضيه في الأمة حتى قيام الساعة، فإن بيان أحكام الجهاد وشروطه وضوابطه الشرعية لا يعني أنه تخذيل عن الجهاد كما تدّعي الجماعات المنحرفة في التشويش على العلماء بمثل هذه الأساليب المكشوفة، ولما كان من أبرز أسباب ضلال وانحراف جماعة «داعش» وغيرها في هذا الباب: بعض الشبهات التي تلقى في بعض أحكام الجهاد، ولأن بعض الشباب في بلادنا غرّر بهم بسبب عدم معرفتهم التوجيه الصحيح لما يلقى عليهم من شبهات تتعلق بالجهاد وأحكامه، فإني انتقي لهذه الحلقة الرابعة من هذه السلسلة للقراء الكرام الجواب عن الفهم الخاطئ الذي تردده جماعة داعش ومن نحا نحوهم من لحديث «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» وقد أجاد الإخوة الأفاضل في موقع «السكينة» وهو موقع متخصص في المناقشة العلمية لهذه القضايا ،أجادوا الجواب المختصر بتوجيه هذا الفهم كما تضمنّت الإجابة التشغيب الذي يمارسه الغلاة من عدم اشتراط ولي الأمر في الجهاد، فاقتبس منه ما يلي: يتشدق الغلاة بأن الجهاد هو سبيلهم، والموت في سبيل الله غايتهم، وأن الحديث النبوي الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره أخبر بأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة. فهل جهادهم المزعوم هو الجهاد الشرعي الذي ورد مدحه والقائمين به في الكتاب والسنَّة؟ لنرى ذلك فيما يلي: أولاً: لا خلاف بين المسلمين على أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وأنه من أفضل الأعمال، وأجَلّ الطاعات، وأن المجاهدين الحقيقيين هم أفضل من القاعدين؛ إذ فضلهم الله عليهم، فهو بهذا عبادة عظيمة من أحب العبادات إلى الله، والعبادة كما هو معلوم لكل ذي بصيرة وعلم في الشريعة مَنُوطَة بأحكامها وشروطها وأركانها وسننها، وأن أية عبادة لا بد من توفر الشرطين الأساسيين فيها، وهما: إخلاص القصد لله تعالى فيها. وأن تكون العبادة موافقة للشريعة وعلى منهاج النبوة. فهذه العبادة العظيمة غير خارجة عن نصوص الشريعة التي وردت في ضبطها وإحكامها، وليست كَلأً مباحًا يتزعمه كل من أراد أن يرفع عَقيرته بأنه مجاهد، أو يصف فعله بأنه من الجهاد، فمنذ بدأ علماء الإسلام في التصنيف والتأليف وهم يذكرون أحكام الجهاد وشروطه وسننه، وكل من أراد التلبس بهذه العبادة العظيمة فهو تحت تلك القيود الشرعية التي بيَّنها علماء الإسلام لتكون هذه العبادة على الوجه الصحيح الذي شرعه الله عز وجل. والعجيب أن تجد من يتلبس بهذه العبادة العظيمة يسأل العلماء عن أحكام الطهارة والصلاة، ولا يسأل أو يهتم بسؤال أهل العلم عن أحكام هذه العبادة، وربما يصل لمرحلة أن يجيز لنفسه الفتيا فيها. فالجهاد مرتبط بمعرفة أحكامه وحدوده حتى يكون صحيحًا، وليس موكولاً للمجاهدين أنفسهم؛ لأن تجاوزهم للحدود الشرعية وارد، ولا مصحح لتصرفاتهم إلا بالرجوع لعلماء الشريعة، والجاهل يفسد أكثر مما يُصْلِح، وكم من مريد للخير حالَ جهلُه بينه وبين إدراكه. قال شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله: «الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين، فلا يُؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا». وقال الشيخ صالح الفوزان حفِظه الله: «والجهاد له باب عظيم في مؤلفات أهل العلم يُرجع إليها، وتُستقرى هذه الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويسأل عنها أهل العلم وأهل البصيرة؛ لأن الجهاد أمره عظيم، إذا نُظِّم وصار على ما رسمه الله ــ عز وجل ــ صار جهادًا نافعًا للأُمة، أما إذا كان فوضى وبغير بصيرة وبغير علم فإنه يُصبِح نكسة للأمة وعلى المسلمين، فكم يقتل من المسلمين بسبب مغامرة جاهل أغضب الكفار ــ وهم أقوى منه ــ فانقضوا على المسلمين تقتيلاً وتشريدًا وخرابًا، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، ويسمون هذه المغامرة بالجهاد، وهذا ليس من الجهاد؛ لأنه لم تتوافر شروطه، ولم تتحقق أركانه، فهو ليس جهادًا، إنما هو عدوان لا يأمر الله ــ عز وجل ــ به». ثانيًا: أن كون الجهاد ماضيًا إلى قيام الساعة لا يعني عدم ترك الجهاد إذا لم تتوافر شروطه؛ لأن كل عبادة إذا لم يستطع المكلَّف القيام بها سقطت عنه بإجماع المسلمين، فالتكليف بكل ما أوجبه الله تعالى من طاعته وتقواه مشروط بالقدرة، كما قال سبحانه: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»، والقدرة في باب الجهاد قدرتان: قدرة خاصة بالأفراد؛ إذ من كان عاجزًا لم يجب عليه الجهاد، وإن كان واجبًا على بقية مجموع الأمة حتى يقوم به بعضهم، كما قال تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ». وقدرة متعلقة بمجموع الأمة، بحيث لا يجوز لآحاد القادرين إقحامها في قتال وهي غير قادرة عليه، ومنع النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أصحابه الكرام من الجهاد في العهد المكي نتيجة ضعفهم ومحدودية قدرتهم خير شاهد على وجوب مراعاة ذلك، وتعليق الجهاد بسبب النوع من العجز ليس من إبطال الجهاد في شيء كما يدعيه بعض من قلّ فقهه، لكنه تُرك للعمل به عند تعذُّر تحقيق غاياته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعَف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين». وقال الشيخ عبد الرحمن السِّعدي رحمه الله: «فليعلم هؤلاء ومن يستجيب لهم أن الله لم يكلف الناس إلّا وسعهم وطاقتهم، وأن للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم ــ أُسوة حسنة، فقد كان له ــ صلى الله عليه وسلم ــ حالان في الدعوة والجهاد، أُمِر في كل حال بما يليق بها ويناسبها: أُمِر في حال ضعف المسلمين وتسلط الأعداء بالمدافعة والاقتصار على الدعوة إلى الدين، وأن يكف عن قتال اليد؛ لِما في ذلك من الضرر المربي على المصلحة. وأُمِر في الحالة الأخرى أن يستدفع شرور الأعداء بكل أنواع القوة، وأن يسالم من تقتضي المصلحة مسالمته، ويقاوم المعتدين الذين تقتضي المصلحة ــ بل الضرورة ــ محاربتهم». فعلى المسلمين الاقتداء بنبيهم في ذلك، وهو عين الصلاح والفلاح. ثالثًا: أن اتخاذ قرار الجهاد مرهون بإمام المسلمين، كما ثبت في الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ــ رضي الله عنه ــ عَنِ النَّبِيِّ ــ صلى الله عليه وسلم ــ قَالَ: «إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ وَعَدَلَ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ، وَإِنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ». قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلَّا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس… ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجُمَع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولهذا رُوي أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللهِ فِي الأَرْضِ. ويُقال: «سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إِمَامٍ جَائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ لَيْلَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ». والتجرِبة تبيِّن ذلك… فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يُتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القُرُبات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها». وقال القرافي المالكي: «إن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس». وقال ابن قُدامة الحنبلي: «وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك». فالجهاد ليس متروكًا لآحاد الناس متى ما أراد دعا الناس للجهاد، ولو كان بيد كل أحد لكان ذلك بوابة للاختلاف، وسلمًا للفتنة، ولعمّت بذلك الفوضى، وظهرت الفُرقة، وقيدت الأمة كما هو الحال في عصرنا إلى ما لا يُحمد من إضعاف المسلمين، وتسليط أعدائهم عليهم، وتشويه جمال الإسلام، وإعاقة مسيرة الدعوة الإسلامية. رابعًا: أن الجهاد بريء براءة الذئب من دم يوسف فيما يفعله الغلاة من قتلهم للمسلمين واستحلال أعراضهم، فالجهاد إنما شُرع لحماية المسلمين من كيد الأعداء، وحماية بَيْضَتِهِم؛ وإرهاب أعداء الله من الكافرين، فكيف يعقل أو يستسيغ مسلم أن يرجع المجاهد زورًا إلى المسلمين ويعمل فيهم بالسيف، ويفجر ويقتل، ويدعي أنه مجاهد في سبيل الله. والحاجة ماسة للمواصلة في الإجابة عن شبهات داعش ومن نحا نحوها ونشر الفقه الصحيح لشروط وضوابط وأحكام الجهاد، خاصة ونحن نسمع بين فترة وأخرى عن شباب في مجتمعنا غرر بهم، لكن ثمة موضوعات أخرى بحاجة إلى طرق، فأتوقف بهذه الحلقة في هذه السلسلة وأواصل إن شاء الله في ذات الموضوع لاحقاً..