الطيب مصطفى

بين انفصال الجنوب ودموع الدقير ! (1)


شعرت بالأسى والأسف أن الأخ عمر الدقير لا يزال يبكي وينتحب حزناً على انفصال الجنوب بالرغم من الحال الذي آلت إليه تلك الدولة الفاشلة بعد خروجها من السودان مما كان ينبغي أن يقنع حتى مسلوبي العقل والبصر والبصيرة فقد أقنعني المقال الذي سطره أخونا الدقير في مساحتي أمس الأول بأني كمن كان يؤذن في مالطا كما يقولون وأن تعبنا المتواصل شرحاً لموقفنا من قضية الجنوب (راح في الفاضي) كونه لم يفصح عن حجتنا التي دفقنا في بسطها كميات كبيرة من المداد منذ أكثر من عشر سنوات. لا بأس من التكرار ، فعندما يقول الدقير ، بدون ادنى تردد ، أن حرب الجنوب لم تكن بسبب حقد الجنوبيين على الشماليين ويقارن بينها وبين الحرب في دارفور فانه يتغافل عن وقائع تاريخية كثيرة يضج بها أرشيف العلاقة المازومة بين الشمال والجنوب ولكني سأذكر ثلاثاً منها على سبيل المثال لا الحصر :

1 – تمرد توريت أغسطس 1955 حيث تمرد الفيلق الجنوبي بالاستوائية وعرف ذلك في التاريخ بتمرد توريت وقد اشتعل في 13 مدينة ومركز في وقت واحد ودشن ذلك أول عملية تطهير عرقي منظم في حق الشماليين دون غيرهم حيث لم يفرق بين العسكري أو المراة أو الطفل أو الرجل .. كانوا يقذفون بالطفل الشمالي (المندكورو) إلى إعلى ويستقبلونه بالسونكي.. من احصوا من قتلى ذلك التمرد تجاوز 330 شمالياً. لقد أدين من تورطوا في تلك المذبحة وصدق الحاكم العام البريطاني (نوكس هيلم) على الحكم الصادر باعدام 121 جنوبياً ونفذ الحكم بالفعل وفر مئات المجرمين إلى الغابة وشكلوا النواة الأولى لتمرد حركة أنيانيا (1) وليت الدقير يقرأ تقرير القاضي (الشامي المسيحي) توفيق قطران الذي عينه وزير الداخلية على رأس لجنة لإعداد تقرير إداري حول الأحداث كما أدعوه كذلك لقراءة كتاب الباحث جمال الشريف بعنوان (الصراع السياسي على السودان خلال الفترة 2008 – 1840) وهو سفر قيم يتجاوز عدد صفحاته الألف.

2 – أحداث الأحد الدامي 1964 حدثت بعد ما يقرب من عشر سنوات من تمرد توريت ..مجرد تأخر طائرة وزير الداخلية الجنوبي كليمنت أمبورو في الوصول إلى الخرطوم لساعات قليلة أشعل مشاعر الحقد وسوء الظن والشك والتربص المعتمل في نفوس الجنوبيين و(القاعد على الهبشة) فقاموا بالتحرش بالشماليين وقتل عدد منهم في مناطق مختلفة من مدن العاصمة الثلاث وكشفت الوقائع عن استهداف عرقي طال الشماليين بالرغم من انعدام العلاقة بين المواطن الشمال العادي وما توهمه من ظنوا أن مؤامرة قد استهدفت وزيرهم. أذكر أن ردة فعل وهبة شعبية عكسية حدثت من الشماليين ضد الجنوبيين أحدثت شرخاً كبيراً بين الشعبين ربما لأول مرة خارج ميدان القتال للدرجة التي اضطرت الحكومة إلى جمع الجنوبيين في دار الرياضة خوفاً على حياتهم. اللافت للنظر في حيثيات هذه الواقعة أن التمرد قد انتقل هذه المرة إلى قلب الخرطوم التي أخذت أعداد النازحين الجنوبيين إليها تتزايد بعد الاستقلال في مطلع يناير 1956 خاصة مع تصاعد وتيرة الحرب الدائرة في جنوب السودان.

3 – أحداث الإثنين الأسود أغسطس 2005 لا أشك أن الدقير كان شاهداً على تلك الأحداث، ومن العجب العجاب أنها حدثت بعد نصف قرن بالتمام والكمال من أحداث توريت التي تمت في نفس الشهر (أغسطس) قبل 50 عاماً.

لا أحتاج إلى أن أستفيض حول تلك الأحداث لسببين أولهما أننا كتبنا عنها كثيراً وثانيهما أن مواطني الخرطوم ، ومنهم الدقير ، شهدوها ورأوها بأعينهم وليس من رأى كمن سمع.

لن يختلف اثنان أن تلك الأحداث كانت تنم عن ذات الحقد الدفين الذي عبر عن نفسه بوحشية مقيتة في كل الأحداث السابقة كونها كانت تطهيراً عرقياً لكل شمالي يقابل أياً من المجموعات الجنوبية الثائرة التي كانت قد انتشرت في شتى أنحاء العاصمة في غياب كامل وشلل تام من السلطات الأمنية، المدهش أنه لا أحد يستطيع أن يجيب عن السؤال: لماذا يستهدف المواطنون العاديون ولماذا تحرق الممتلكات وطلمبات الوقود والمؤسسات العامة والخاصة ؟! في الحلقة القادمة أكتب مزيداً من الخواطر الصادمة حول تلك الواقعة الأليمة التي يصعب أن تمحى من ذاكرة هذا الشعب الكريم الذي شهد صنوفاً من الأذى والأحقاد والتشفي في مسيرة الدماء والدموع التي خاضها مع الجنوب وشعبه ولم تورثه غير التخلف والتقهقر وانعدام السلام والأمان والتطور.


‫2 تعليقات

  1. الأنقاذ كلها سوءات .. وأسوأ ما انتجته هو ان اصبح هذا الزراط وامثاله اسماء فى حياتنا .. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا .. آمين

  2. غريب ان خال الرئيس لا زال حتى اليوم يملك الجراءة ليسوق بضاعتة الكاسدة و الفاسدة حتى بعد الانفصال و يريد ان يواصل تجارته على ما تبقى من هذا الوطن الجريح و لا يوجد من يسكته حتى من طرف المتأسلمين الذين انكشفوا و انفضحوا امام هذا الشعب !.

    لماذا لم تسأل نفسك يا مصطفى عن السبب الذي جعل الاشاعة عن احتلال جيش الشمال للجنوب في 1955 تسري كالنار فوق الهشيم ؟ الم يكن بسبب خداعنا نجن الشماليين للجنوبيين في مؤتمر المائدة المستديرة عندما حدعناهم بالكونفدرالية لنضمن استقلال السودان شماله و جنوبه تحت راية حكومة الاستقلال ؟ الم نثبت تلك المخاوف عندما رمينا لهم الفتات من الوظائف قبل تلك الاحداث اثناء السودنة ؟ الم يكن هناك ماضي بغيض بيننا و بين الجنوبيين من غشنا لهم في التجارة و استرقاقهم في غارات القبائل في كردفان و دارفور ؟ الم نعاملهم كمواطنيين من الدرجة الثانية حتى لحظة اعلان الانفصال ؟