تحقيقات وتقارير

في سيرة زمن باتت فيه “شحدة” الجيران عيب.. الخير راقد والناس شفقانة


“سعف حبوبة والكورية والحنقوق/ وصوت سـعدية بت جيرانا تشحد ليها في طايوق/ وصوت عرفه لما تخمج الدلوكة غناية/ وحبة فريك لموهُ لـي رمضان مصرُور في مخلاية”. كلمات صاغها الشاعر التجاني حاج موسى حينما عاوده حنينه لقريته آنذاك، يتصور سامعها لا محالة مشهد سعدية وهي تقف خلف الجدار الفاصل بين منزلها والجيران، أو عبر شرفة تطل عليهما تسأل ما تريده دون تردد ربما لثقتها المفرطة بجيرانها، وهم يتعاونون حال احتاج أحدهم مُساندة معنوية أوعينية من آخر، ما يجدر ذكره أن ذات النهج تلاشى فى بعض الأمكنة خاصة داخل المدن، وبلاشك تتعدد وتختلف أسبابه، ربما يتجلى لنا المشهد قليلاً ضمن استطلاعات أجرتها (اليوم التالي) في هذا الصدد.
مشاغل الدنيا
الحياة مؤخرًا أضحت دون مذاق، كون الجار لا يتفقد جاره ناهيك عن التعاون والتكافل بينهما، إذ أن كثيرين لا وقت لديهم، لذلك بحجة (مشاغل الدنيا)، عبارة ابتدرت بها حديثها (السترة) معاصرة جيلين مختلفين حد وصفها. وأضافت: “كثير منا بات ينسب قصوره إلى وتيرة الحياة المتسارعة، وضغوطها الاقتصادية التي في اعتقادي هم من ساهموا في تأزّمها بطريقة أو بأخرى، ما يعني مجاراة ما يحدث في بعض البلدان من خلال مشاهدة القنوات الفضائية، بالتالي تغيرت المفاهيم التي بدورها أثرت على نوعية علاقة الجيران المتعارف عليها في عهدنا، سكتت محدثي هُنَيْهَةً”. ثم أردفت قائله: “زمان كان قدحنا واحد نشحد بصلة الحلة من بيت والزيت من آخر وبعد ما تستوي تكفينا كلنا بسلامتنا، أما الآن الخير راقد والناس شفقانة وجيعانة، يا بتي أي شيء بقى ممحوق، وكل البتتكلم معاه يقول ليك ماعندي وقت، في زمنا كنا ننادي بعضنا بالحيطة لشراب القهوة والونسة، أما هسة الباب في الباب والزيارة بمواعيد والسلام بالتلفون، وقدر الله تشحد جيرانك حاجة يشيلو حالك في الحلة، أظنها بقت عيب، كان كملته الملح المر دا إلا تجري الدكان”. وختمت السترة “جيل مُعقد وعُقد الحياة معاهُ”.
كل جيل له عصره
من جهتها، ترى رندا عثمان (طالبة جامعية) أن إيقاع الحياة السريع، بجانب تطور هذا الجيل ساهما بشكل مباشر في تخطي عادات وثوابت علِقت لعقود طويلة بأذهان الأجيال السابقة، درجة أنها جسدت جزءاً أصيلاً من تاريخ حياتهم. وأشارت إلى ضرورة تحديث وتجديد سلوك كل جيل في الأثناء، ما يؤكد – بحسب رندا – أن هناك سباقاً حضارياً مُلتمساً في كل الشعوب، وبذات القدر يتطلع الجيل الحالي لتطوير وتغيير مفاهيمه، وبهذا من الطبيعي أن تتلاشى عادات وتقاليد لا تناسبنه، ولا أدري لماذا يستنكر البعض لسلوك نعتبره طبيعياً ولا يستغرب لفعله أحدنا”.. ولا يزال الحديث لرندا تتابع: عندما أسمع لجدتي، وهي تحكي لنا عن زمانهم وكيف كان هؤلاء يعيشون بكل سذاجة وعفوية بالكاد لا أصدقها، وكعادتها تعترض دوما على تصرفاتنا وتصفها بأنها لا تمت لحسن الخلق بصلة وتتبرأ منها، وعندما لا نكترث إلى نصائحها فوراً تهاجم والدتي، كونها لم تجد تربيتنا وفق تعبيرها، وقتئذ تراضيها أمي بقولها: “كل جيل بزمانو يا حاجة”.
جواب للبلد
في سيرة تكافل وتعاضد الجيران قصدنا أن نجتر ذكريات الشاعر التجاني حاج موسى، متحدثا عن قصيدته جواب للبلد، التي نظمها في ذات الشأن، عندما كان طالبا في الجامعة أوائل سنين دراسته، وقتها عاوده حنينه إلى جيرانه بمدينة الدويم. موضحا: “حاولت ترجمة أحاسيسي إذ انتقلت من مدينتي الصغيرة إلى العاصمة، محاولا تجسيد العلاقات الحميمة والمباشرة بين أهالي الريف داخل مجتمعاتهم البسيطة، هذا الصراع الأزلي ما بين مدن كبرى وأخرى صغرى، إذ يغلب عليهم طابع الأسرة الواحدة محافظين على قيم التواصل والتكافل بجانب المحبة، وهذا ما تفتقده الأولى، حيث يجمع بين سكانها بمختلف سحناتهم وثقافاتهم منافع بحتة، ولا تربطهم أواصر ولا تاريخ مشترك، بالتالي عبرت في قصيدتي عن أشياء أفتقدها في العاصمة آنذاك”..
لا من أجل المودة
في موازاة ذلك يواصل التجاني حديثه مُعزيا تلاشي الظاهرة لسببين رئسين أولهما: “اتساع الرقعة الجغرافية، علاوة على اكتساح العولمة أجواء الريف مؤخراً، ما جعل أهاليه يستبدلون التواصل على الواقع بوسائل أخرى، إضافة إلى انشغالهم بها لساعات متواصلة داخل المنازل”. وزاد حاج موسى: “تعقدت الحياة وبات الكل يسعى لتحقيق مكاسب مادية فقط، مُتجاهلين ثمة التواصل حتى مع الأرحام ناهيك عن الجيران، ونجد من يحرص على تواصل من تربطه به مصلحة ما، لا من أجل المودة، عكس مجتمعات الأرياف التي ترى الاجتماعيات واجباً يُمليه عليها الترابط والتعاضد والمحبة”.
النفاجات لا تزال
إلى ذلك يصف التجاني حيّه في الدويم بالبيت الكبير حيث يتزاور قاطنوه عبر (النفاجات) طوال اليوم، وبالتالي يتشاطرون أحزانهم، كما يسعون إلى مساندة بعضهم في الأفراح مادياً ومعنوياً على السواء، متابعا: “وكم اجتمعنا على (صحن الملاح) لا للعوز ولكن بروح المشاركة، لذلك لابد أن نتمسك بالمبادئ التي أوصى بها ديننا كالحميمية والتواصل والتراحم”.

اليوم التالي