حسين خوجلي

حكـــايــــة لصباح السبت !


> بيت الطين العجيب والزقاق الأمدرماني الأعجب ونيل أبو روف المهمل يسمع خطواتي الحائرات، وأنا أطرق باب (الزنكي) العجوز.. وينهض في الثامنة مساءً) رجلٌ في آخر الزمان والمكان وفناء الدار (الحوش) ليس أكثر من مترين لرجل خياله مملكة البحرين * 0001، ويطل عتيق بوجهه التراثي المغسول بذكريات السودان الرحيب.. وذكريات أهله .. نحيل لكنه غَضٌ وصاحب ابتسامة (تريانة) كابتسامة الأطفال مثله مثل حيارى قبايل «الدواليب» المبثوثة ما بين الشمال الأوسط والغرب الوسيط، مقدرة عجيبة على استدرار الفرح واستجلاب الحكي والتمرد الوسيم.
> محمد بشير عتيق هذا الكائن الشعري المحض الذي لا تعرف في حضرته من أين تبدأ ومن أين تنتهي.. ومن أين تستعاد وتختزن الدهشة.
> عرفني أولاً على غرفته الزاهدة التي كانت مجرد أسِرة من الخشب القديم وكرتونة ناصعة اللون تضج بالأوراق والملابس المهترئة وأشياء وأشياء لا تساوي شيئاً، مع أن نفس عتيق الموارة تساوي الدنيا بما فيها .. وبعد الغرفة أصر أن يعرفني على (الحاجة) رفيقة اليوم وحبيبة الأمس وعروسة الصبا، أنها هو وأنه هى ذات اللون وذات البسمة وذات النمنمات من الدفء الأفروعربي الصقيل، لم أعرف في (الحضرة) هل أبكي أم أضحك أم ماذا؟ ولكنني قررت أخيراً أن أمازح فلعله يباعد القلق ويطرد النفس اللوامة.. قلت له: يا عتيق (المعتق) أهذه هى الشيخة التي كتبت فيها يوماً:
جيلك بفتخر بك
وليك أسطول مدرع
مين اتحدى قربك
قصدي أكون محايد
تبعد عنى حربك
وبى طوربيد عيونك
لي توالى ضربك
قت لو مرادي إلفك
يا من عالى صدرك وخصرك جاذبو (طرفك) ..
وهنا صاح (خلفك)
وليس طرفك يا تحريفي ..
وواصلت:
قال لى سيب مجونك وسيب إغراك ووصفك
ودوم على نار غرامك حتى تلاقي حتفك
قال إنت أصلك في طرق المهالك
داخل كل مسلك
أصلو غرامي مسرح مثّل فيهو فصلك
وأختم دور حياتك زي الكانو قبلك
ولا أجد عبارة أصدق من عبارة (ماتا بالضحك).. تماثل الواقع والحالة والمشهد.
ضحك الشيخان ضحكات مترعة بكل مشاعر الإنسانية .. الفرح والسعادة والتدفق والوقار والحياء والطفولة بالمقلوب.. وهنا انتبهت الشيخة للعمر والشعر الأبيض وتغضنات السنين ووجود غريب ومر الشجن والاهمال ورغم الانتباه المهيض الجناح لانسراب العنفوان عاودها من جديد شوق الإفصاح فقالت: «شكيت محَنَك على الله يا عتيق.. حتى مجونك بقى غنا وشالوهو الصبيان».
أدمع عتيق مواسياً وقال: «أيام يا حبيبة القسا.. أيام»..
وصمت طويلاً و(حبيبة القسا) روشتة يصرفها أهل أم درمان حين يطابق الصدق المفردات تماماً وتنمحي المسافة ما بين الحقيقة والشريعة!!!
> وهنا وفي هذه اللحظة بالتحديد رأيت تحالفاً مشروعاً ما بين أعينهم المرهقات والأنجم الوسنى التي لا تبلى وهى تتلصص ـ هنا استسلم عتيق، وأخذت وعداً على أربع حلقات لـ «أيام لها إيقاع» استضفته فيها وصديقه الراحل حسن الزبير الذي قال عنه بكلمات يفتخر بها حسن الزبير كثيراً ويرددها دائماً:
«حسن دا يا حسين حبيبنا.. وأنا مسميهو طيش الحقيبة.. وقصيدتو:
أنا فاكرك معايا
حبيبي فاكرك معايا
تسعد بى سعادتي
وتشقى عشان شقايا
«القصيدة دي يا ود خوجلي بتجرحني».. وحياة سيد القبة بتجرحني..
وصمت من جديد وأدمع..
> ظل النيل يسري وظلت أبو روف تستقبل كعادتها العشاق والأدباء والساسة والمهاجرين والطلقاء وسمار الليالي والمطاليق و(تبوس) الجميع في صوفية يعرفها (الملاماتية) وأصحاب الشطح ولا تبالي ..
> رحل عتيق..
ورحل حسن الزبير..
ورحل إبراهيم يوسف سليمان وأولاد الكد وأبو الروس وفرَّاج..
ولكن النيل يمضي لا يبالي كعشيقته المتمردة.. وأنا وحدي ألوّح بمنديلي الأبيض مثل راية التسليم على حدود المدن المستباحة.. أقف على عتمور النفس والآهة الحرّى.. وكل شئ ينفلت ويرحل والندامى يسافرون واحداً بعد الآخر.. والعود يبكي والهدلة ثكلى ومفتي المناحة يدمع.. وينزلق المطلع الأول على كتف بلاد مسكينة ليس فيها كريم يرتجى منه النوال ولا مليح يعشقُ!!


تعليق واحد