الطيب مصطفى

بين انفصال الجنوب ودموع الدقير 3


تعرضنا خلال المقالين السابقين للحقد الذي كان الجنوبيون ينطوون عليه ضد الشماليين (المندكورو) وذلك في إطار تعقيبنا على الأخ عمر الدقير الذي نفى أن يكون أبناء الجنوب يصدرون عن كراهية وحقد جعل التعايش بين الشعبين متعذراً، وهو إذ يقدم حجة تبرر موقفه دفع بأن هناك صراعات دموية حدثت ولا تزال بين الشماليين أنفسهم سواء كانت من حركات مسلحة أو حروب قبلية، وضرب مثلا بما يجري من حروب في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان.

دعنا نناقش هذه الجزئية بصراحة فقد ظللت أقول إن المقارنة بين مشكلة الجنوب والمشكلات الأخرى في مختلف مناطق السودان كالمقارنة بين السرطان والصداع سواء من حيث تطاول أمد الصراع أو طبيعته. في الجنوب ظل الجيش الشعبي التابع لقرنق يخوض المعارك ضد القوات المسلحة على مدى اثنين وعشرين عاماً وكذلك كانت حركة أنيانيا التي بدأت حربها قبل ذلك من أحراش الجنوب عقب تمرد توريت (1955) ولم تتوقف حتى بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا بين حكومة نميري وقائد حركة الأنيانيا المتمردة جوزيف لاقو عام 1972.

في كل حرب الجنوب كانت هناك سلطة أو حركة متمردة تخوض الحرب بالنيابة عن كل الجنوب، بينما كانت حروب دارفور وغيرها تمردات محصورة في مناطق محدودة وبأعداد محدودة بدليل أن كل عواصم الولايات والمدن الرئيسية قبل الإنقاذ وبعدها كانت خارج سلطة لوردات الحرب، ولعل الانتخابات التي ظلت تقام طوال تلك الأعوام كشفت ضعف الحركات المتمردة من حيث سندها الجماهيري. إن عدم طلب الحركات الدارفورية المتمردة إقرار خيار تقرير المصير بين مواطني دارفور يقف دليلاً على الفرق الهائل بين قضية دارفور وقضية الجنوب وما كان للوردات الحرب في دارفور أن ينتحروا سياسياً بالمطالبة بذلك الحق الذي سيعزلهم من شعب دارفور وما قلته عن شعب دارفور ينطبق على مواطني ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.

أن انحسار الحرب في دارفور ، إلا من جيوب قليلة ، يجعل الاستشهاد بها يعوزه المنطق السليم ولا يمكن المقارنة بين مواطني دارفور المنتشرين في كل أنحاء السودان والداخلين في كل تلافيف المجتمع السوداني والمنصهرين في نسيجه تصاهراً وتزاوجاً ومواطني جنوب السودان الذين لم يكونوا في أي يوم من الأيام جزءا من المجتمع السوداني إنما غرباء عنه لا يجمعهم معه جامع في فرح أو كره.

إن الصراعات القبلية والحروب التي أشعلها المتمردون على سلطان الدولة في دارفور وغيرها أمر مؤسف وجدير بالتصدي له بشتى الوسائل ولكن لا ينبغي أن نتخذه حجة للمقارنة بين مشكلة الجنوب والحرب التي ضربت بعض مناطق دارفور والتي لم تنبن على تباغض بين مواطني دارفور واخوانهم في مناطق السودان الأخرى إنما هي صراعات على المرعى وطموحات سياسية لبعض تجار السياسة ولوردات الحرب.

ليتك أخي الدقير تكون منصفاً لتتحقق فيما إذا كان شعبا الشمال والجنوب شعب واحد ..حتى في جامعة الخرطوم التي احتضنتنا في قاعات الدرس والداخليات ما كنا نجد تساكنا وتداخلا كما زعمت بل تجد ابناء الجنوب يتساكنون مع بعضهم بعيدا عن الشماليين ناهيك عن الاختلاف الهائل في العادات والتقاليد.

قولك أخي الدقير إن (وطنا ورثناه بنيله سليل الفراديس وهو يتهادى بين نمولي وحلفا مزاوجاً بين الغابة والصحراء قد تشكل من عناق التاريخ والجغرافيا وإن تيارات حضارية متعددة صاغت واقعه المنجمي) لا يعدو أن يكون مجرد كلام عاطفي محشو بكثير من الرومانسية ذلك أن وطنك الذي تتحدث عنه لم يكن ذلك الوطن المتهادي في سلام وإنما كان وطن الدماء والدموع الذي لم نرثه من آبائنا وأجدادنا وإنما ورثناه من مستعمر لئيم شكله كما تشكل المتناقضات مزاوجا بين القط والفار والليل والنهار والشحمة والنار وقد بينت ذلك بالوثائق التاريخية التي ترفض ان تقتنع بها .. لم يكن عناقاً بين التاريخ والجغرافيا إنما كان تدابراً وتشاكساً وحرباً لم تبق ولم تذر .

قل لي بربك .. أما كان من الممكن أن يضم الإنجليز السودان إلى مصر أو مصر إلى السودان وقد كانا وطناً واحداً في حقب مختلفة من التاريخ ؟ هل كنت ستذرف ذات الدموع إذا انفصلت مصر بعد الوحدة عن السودان وتتحدث عن عناق التاريخ والجغرافيا؟ دول كثيرة انفصلت عن بعضها البعض ضربنا أمثلة لها بل ذكرنا جارتنا القريبة أثيوبيا التي انفصلت عنها اريتريا بالرغم من أن رئيس وزراء أثيوبيا السابق مليس زناوي ابن خالة رئيس اريتريا وبالرغم من أن الشعبين أقرب إثنياً إلى بعضهما وبالرغم من ذلك حدث الانفصال الذي أفقد اثيوبيا البحر حيث أصبحت دولة مغلقة لا ميناء بحري لها بكل ما يعنيه ذلك من خسارةجسيمة