ضياء الدين بلال

ما تنقطعوا مني !


-1-
كنتُ في زيارتهِ بمعية عدد من الزملاء قبل سفره للعلاج في القاهرة، كان الأستاذ حسن البطري يغالب آلامه، وهو يجتهد في الحديث إلينا رغم تصاعد الأنفاس وحرج الصدر.
ورغم الهزال والتعب البادي على ملامحه، لم تخبؤ ابتسامته الوضيئة، ولم تغب رنة الود واللطف عن صوته الهامس الأبح.
أبرز ما يميز البطري في الكتابة والحديث تلك البراعة الاستثنائية في تحويل المعتاد والمألوف إلى مدهش وجاذب، لا يماثله في ذلك من الكتاب سوى الرائعين هاشم كرار ومحمد محمد خير .
كان يحكي لنا قصة معاناته مع فشل الصدر في الحصول على أكسجين طبيعي، لدعم عملية التنفس، فالرئة تعمل بالحد الأدنى للكفاءة.
البطري يحكي ويروي قصة المرض، كأنه يتحدث عن شخص آخر، ما أروع هذا الكاتب ذو العناية الفائقة بالتقاط التفاصيل ورسم الصور وجماليات السرد.
-2-
والحديث عن أول سيجارة بالجامعة لتأكيد الوجود عبر مسكها بأطراف الأصابع ونفث دخانها في الهواء، وزرارتين أعلى القميص تركتا دون رابط، بعمد.
حسناء مصرية فائقة الجمال ساحرة الإطلالة بمقهي قاهري عتيق في سبعينات القرن الماضي، كانت تروج لسيجار أمريكي جديد، تهديه لرواد المقهى دون مقابل، مصحوباً بابتسامة غير قابلة للمقاومة والخذلان.
رواد التدخين يغيرون مواقفهم و لا يستبدلون نوع سجائرهم إلى نوع آخر مهما كانت الإغراءات.
والصادق الرضي يغني:
سوف أصنع لي فتاة من دمائي
كي تقدسني وتبكي
عند موتي دون زيف
سوف أصنع لي فتاة
من دخان سجائري
لتلم عن وجهي غبار الاغتراب
وكي تقيني من مكابدة النزيف.
وشباب الاتحاديين في المهاجر كانوا يقلدون الشريف حسين الهندي في كل شيء حتى في نوع السجائر وطريقة الحديث ووضع الرجل على الرجل.
-3-
البطري يحكي ونحن نستمع بآذان صاغية ومتعة غير متناهية، ورغم السعال المتقطع وتصاعد الأنفاس، كانت الرغبة التي تسيطر علينا: (ليته لا يصمت).
كان يحكي عن تفاصيل الـ72 ساعة قبل مرضه الأخير، كيف هي الأقدار والواجبات الاجتماعية، فرضت عليه السفر والعودة إلى الشمالية مرتين في 48 ساعة لتأدية واجب العزاء!
أما الـ 24 ساعة الأخيرة فقضاها بين مقابر الصحافة في عزاء آخر والعودة الثالثة للشمالية للمشاركة في ختام مهرجان التسوق بكريمة.
ومن داخل إستاد كريمة أعلن الجسد النحيل عجزه عن القيام بواجبات هذا الرجل الهميم الذي يجامل بكل شيء حتى بأنفاسه وروحه، ليسعد ويرضي الآخرين.
القصة لا تنتهي، والسرد لا يتوقف، والرغبة في الاستماع بلا حدود، والسعال لا يتوقف، والأنفاس لا تهدأ، وماذا عن خيارات الأطباء للتعامل مع الفشل الرئوي؟!
-4-
الخيارات تضيق وفرص الشفاء في انحسار وجدل طبي بين الأطباء عن فوائد ومضار الكرتزون يتم فوق رأسه.
وحسن البطري يشرح لنا فعل الكرتزون، ذلك الدواء الساحر المخادع الذي يخفي الأعراض ويوهم بالشفاء، وبين غفلة وانتباهة، يقوم خلسة بفتح الباب أمام أمراض قد تكون أكثر خطورة من المرض الأساسي!
الزمن يمضي والأسرة تقلق على صحته ورغم ضعف الصوت وعسر الحديث كانت الحكاوي والقصص تنساب كأن الرجل ينظر إلى نفسه من عبر النافذة!
-5-
كانت حزمة من الأوراق إلى جواره على السرير، قال إنه رغم كل شيء لم يتوقف عن كتابة كل هذه التفاصيل.
نعم، كان يسجل بقلم الصحفي والقاص، يوميات رحلته من المرض إلى القبر.
حانت لحظات الوداع في تلك الليلة ودموع بلا حوابس، تمضي إلى الخدين، وجملة على مخرج الباب لم تفارق أذناي: (ما تنقطعوا مني يا ضياء).
له الرحمة والمغفرة زملينا الودود الصبوح حسن البطري، كان رجلاً سليم القلب والوجدان، عفيف القلم واللسان، لا تغيب الابتسامة عن وجهه ولا الحكمة عن قوله .
ربنا اغفر له وارحمه واجعل الجنة متقلبه و مثواه .. الهم أهله الصبر وحسن العزاء إنا لله وإنا إليه راجعون.