الطيب مصطفى

قبل دخول مستنقع الجنوب


تعالت الأصوات من أمريكا وغيرها لدور سوداني في حل الأزمة الجنوبية باعتبار أننا الأكثر خبرة بالملف الجنوبي بكل تعقيداته، ولا ضير في أن نسهم في حل أزمة الجنوب المتفاقمة، ولكن ذلك ينبغي أن يتم بحذر تقتضيه عبر التاريخ المُجلل بذكريات الدماء والدموع، فقد ظللنا نقول إن الضجيج في بيت جارك يحرمك من النوم الهانئ فما بالك بحرب على عتبة بيتك (يلعلع) فيها الرصاص بل والأسلحة الثقيلة ويزداد لهيبها كل يوم ضراوة وتقتل وتشرد الملايين من الجنوبيين ممن يفرون إلى ديارك طلباً للأمن والمأوى والطعام بعد أن أضناهم الجوع واستبد بهم الحرمان وضاقت بهم سبل العيش في وطن الأحلام الموؤودة والأماني السراب؟!

نعم نحتاج إلى أن نضطلع بدور إيجابي في دولة الجنوب المجاورة التي يفتك بها الموت والجوع ..ذلك ما يحتمه علينا ديننا وخلقنا وقيمنا النبيلة وتقاليدنا الكريمة. لكن أي دور ذلك الذي علينا ان ننهض به؟ .

الاتحاد الأفريقي ربما يدفع بقوات إقليمية لفرض الاتفاق الذي أبرمه على طرفي الأزمة المتقاتلين سلفاكير ورياك مشار، ومعلوم أن للأمم المتحدة بعثة أممية تعمل في جنوب السودان تسمى (اليوناميس) لكنها أعجز من أن تحمي نفسها فهي لا تختلف عن بعثة الامم المتحدة في دارفور المسماة باليوناميد والتي تصرف مليارات الدولارات ولكنها لا تقوى على مواجهة بضعة غزلان مذعورة تجفل من صفير الصافر ناهيك عن مواجهة عصابات النهب المتفلتة التي تختطف عربات اليوناميد (حمرة عين) بينما تبقى هي مكتوفة الأيدي تخنس عن حماية نفسها أو التصدي للحركات الدارفورية المسلحة التي كانت على الدوام تسرح وتمرح على مرأى ومسمع من أولئك الجبناء الرعاديد.

سلفاكير الذي ظل يستجير منذ سنوات بالرئيس يوري موسيفيني وقواته اليوغندية في حربه ضد خصمه اللدود رياك مشار وبقية القبائل المتمردة على سلطان قبيلة الدينكا بادر ، بتشجيع من حليفه موسيفيني ، بإطلاق تحذير من أي تدخل إقليمي أو دولي في جنوب السودان بالرغم من الوجود اليوغندي الكثيف في بلاده ولا يختلف اثنان أن موسيفيني يريد أن يظل منفرداً بالجنوب مشاركاً في القرار السياسي ومستفيداً من السوق الجنوبي المفتوح على مصراعيه ليوغندا التي لا يوجد كابح يحد من سطوتها ووجودها الفاعل في كل مرافق الحياة في تلك الدولة البائسة.

معلوم أن دولة جنوب السودان الآن تتقلب في برميل من البارود شديد الانفجار والوضع مفتوح على كل الاحتمالات سيما بعد أن انعزل سلفاكير من أي تأييد أو تعاطف أقليمي أو دولي بعد قراره تعيين حليفه المزعج تعبان دينق محل رياك مشار المعين نائباً أول للرئيس بقرار من الاتحاد الأفريقي.

في ضوء هذه المعطيات فإن السودان ، كما تريد أمريكا ، يمكن أن يلعب دوراً أكبر من بقية الأفارقة في الملف الجنوبي لكن أي دور ذلك الذي ينبغي أن يلعبه ؟

أقول إنني أحذر من أي دور عسكري للسودان يؤجج مشاعر العداء لدى الجنوبيين ويوقظ شيطان الأحقاد ويجدد ذكريات الحرب اللعينة التي أمتدت منذ ما قبل الاستقلال وتواصلت لعقود من الزمان حتى انفصل الجنوب ليقيم دولته المستقلة التي تحتضر اليوم وتوشك أن تزهق الروح بفعل أبنائها المتناحرين المتباغضين المتشاكسين.

نود أن نذكر الغافلين قبل أن يفكروا في إرسال جنودنا إلى الجنوب أن الانفصال الذي سماه الجنوبيون استقلالا اكتشفوا وهم يعقدون المقارنة بين الشمالي (المندكورو) الذي لطالما أبغضوه وبين الجاليات الأفريقية المتدفقة من دول الجوار ، يوغنديون وكينيون وغيرهم ، بحثاً عن رزق في الدولة الجديدة .. اكتشفوا ما كان الحقد على الشماليين يعميهم عن إدراكه ..اكتشفوا بعد (دقستهم) المحزنة أن إنسان الشمال كائن ملائكي يملك من القيم والصفات ما يعز وجوده ويندر بين شعوب العالم وكان العداء للشمالي أيام الحرب هو ما يوحد بينهم ولذلك حذار أيها الناس من الخدعة التي تود أمريكا بل يريد سلفاكير سوقكم إليها حتى يشعل الحقد على الشماليين الذي بدا يخبو وينحسر ليوحد أبناء الجنوب ويحشدهم خلف سلفاكير لمواجهة (المستعمرين) الجدد بذات الصورة القديمة خلال تلك الأيام النحسات قبل الانفصال.

كذلك فإنه حتى بالنسبة للأدوار الأخرى ، غير العسكرية ، التي يمكن للسودان أن يلعبها فإن الأهم ألا يحرق السودان أوراقه بالمجان كما ظل يفعل على الدوام فأمريكا تتعامل باستراتيجية أفصحت عنها ولا تخفيها فهي ، كما قال وزير خارجيتها الأشهر كيسنجر ، لا تدفع ثمن ما يهدى إليها.

إن إدراج الدول تحت قائمة الإرهاب تقرره وزارة الخارجية الأمريكية أما بقية العقوبات فهي من فعل الكونجرس ولذلك فإن ملف الجنوب مع ملف الحوار الوطني ينبغي أن يكونا محط اهتمام الحكومة التي عليها أن تعلم أن الرياح مواتية لها لكي تحدث إختراقا في ملف العلاقة مع أمريكا من خلال التفاوض حول دور سوداني فاعل يسهم في حل الأزمة المتفاقمة في جنوب السودان مع دور آخر لا يقل أهمية حول الحوار الذي بمقدور الحكومة أن تحقق فيه من خلال اتخاذ مواقف مرنة ما يمكن أن ينقل السودان إلى توافق وطني يحقق السلام وينهي الاحتراب ويضع السودان في مسار جديد للحكم الراشد.