جعفر عباس

التسيب والزوغان جعلاني نبيلا


في المدرسة الثانوية التي كانت قريبة من العاصمة السودانية، صار لساني عربياً بدرجة كبيرة فلم أعد أذكر المؤنث وأؤنث المذكر كعادة أهلي النوبيين، ولم أعد أتكلم عن الهروف بل الخروف، وصار اسمي جعفر عباس بعد أن كان جافر أباس. (وكم كانت أمي تحرجني أمام أصدقائي الناطقين بالعربية في الحي الذي انتقلنا إليه في المدينة الكبيرة عندما كانت تفتح الباب وتناديني: جافر تعالي – كانت تنطق الكلمة الأخيرة «تآلي»)، ولكن وبصفة عامة كان مستواي في العربية الفصحى أفضل من مستواي في العامية، وكانت طبيعتنا القروية الجافة ترفض مفردات عامية مثل (آآي) التي تعني (نعم) في العامية السودانية وكنا نرى فيها ليونة لا تليق بالرجال.
ولحين من الدهر كان ناظر (مدير) مدرستنا الثانوية، رجلاً يسيء الظن بأبناء شمال السودان ويعتبرهم «أجلافا»، (وبيني وبينكم كانت بنا بعض جلافة)، وكان يجهر برأيه هذا في كل محفل، وكان الرجل من أم درمان، وأهل أم درمان شديدو الاعتزاز بمدينتهم ويعتبرون سكان المدن الأخرى بمن فيهم الخرطوميون «جاليات أجنبية»، ذلك أن أم درمان كما ذكرت في مقالاتي مرارا هي عاصمة الدولة المهدية وهي أول دولة سودانية خالصة في التاريخ الحديث، وقد قامت على أنقاض الدولة التركية، وهي بالتالي نتاج أول حركة تحرر وطني ناجحة في تاريخ المنطقة (أواخر القرن التاسع عشر).
وكنت كما هو معلوم لدى الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمة أطباء بلا حدود، شديد الحساسية تجاه مادة الرياضيات، وكان ممنوعاً علينا أن نتواجد في السكن الداخلي أثناء اليوم الدراسي، وذات يوم تسللت إلى العنبر (غرفة تتسع لعدة أشخاص) الذي كنت أقيم فيه هرباً من حصة الرياضيات، وكان مدرس الرياضيات «يرحب» بغيابي، لأنه كان يعتبرني عبئاً على تلك المادة، وكان الطريق إلى المدرسة الابتدائية يمر حذاء العنبر (مدرستنا الثانوية كانت مستوطنة قائمة بذاتها بها مدرسة ابتدائية لأبناء العاملين، ومركز صحي وأندية للمدرسين والطلبة والعمال ومركز شرطة ومحطة كهرباء وماء، وكانت مبنية على طراز المدارس الإنجليزية الخاصة مثل هارو وإيتون)
المهم، سمعت أصوات أطفال قرب شباك العنبر وتحققت من مصدر الصوت فكان بنت الناظر وطفل من أقاربها، وما إن رأياني حتى طلبا مني أن أساعدهما في رسم بعض الأشكال في «دفتر الفنون». ورغم أن إلمامي بفنون الرسم مثل إلمام دونالد ترامب بأصول العمل السياسي والخطابة، فقد جلست أرسم لهما أشكالا نالت استحسانهما، وفجأة شعرت بأن الطفلين صمتا وتصلبا فرفعت رأسي ويا للهول: كان الناظر شخصياً يقف خلف ظهري، فصدرت عن صدري حشرجة الموت فرددت الشهادتين وتمتمت: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ورغم أنني كنت أتوقع حكما قاسيا، التزمت بالأصول وانتفضت واقفاً، فقد كان البروتوكول في تلك الأيام يقتضي أن تقف كلما مر بك أحد المدرسين، حتى لو كنت تلعب الكرة في الشارع، كانت قدماي تصطكان بقوة 8 درجات على مقياس ريختر. ونطق الناظر: غريبة! نوبي و… قلت: أكيد إعدام طالما الرجل يعرف أنني نوبي وهو يعتبر أهل منطقتنا مثالاً للتخلف والجلافة! ولكنه قال كلاماً عجيباً: نوبي ولكن نبيل.. يا ابني حب الأطفال موهبة ونعمة لا يتمتع بها إلا محظوظون قليلون.. قلت في سري: أكيد الراجل خرَّف.. كيف يمدحني وأنا نوبي مزوغ من المدرسة وأتطاول بمساعدة بنته في الرسم.. أفلت من العقوبة وصرت شخصاً محترماً في نظر الناظر، إلى أن كان الإضراب عن الدراسة فطردني من المدرسة شر طردة… نهائيا (وجلست لامتحان الشهادة الثانوية من «المنازل» في مدرسة أخرى).