يوسف عبد المنان

خربشات (الجمعة)


زرت بلاد الحبشة أو إثيوبيا الحديثة لأول مرة عام 1996وكانت الحكومة قد أعلنت عن مفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وحينها كنت صحفياً بقسم الأخبار بصحيفة القوات المسلحة وفتح الأستاذ “عبد العظيم نور الدين” الصحيفة للشباب، وهو من رؤساء التحرير الذين لا يتهافتون للأسفار، وكان من بين الزملاء “حسن محمد صالح” و”سليم عثمان” والصحفي الذي ضاعت موهبته بين السوق والسياسة “عثمان الهادي” وتولى الدكتور “مكي محمد مكي” رئاسة قسم الأخبار حينما ذهبت لإثيوبيا.
‏حينذاك كانت الثورة بكراً و”ملس زيناوي” يفيض نشاطاً وصورته في الشوارع والأماكن العامة وجرت المفاوضات في مقر اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة ومن الزملاء الناشطين صحافياً يومها الصحافي “صالح محمد علي” الخبير بالشأن الإثيوبي ووثيق الصلة بالسفير “عثمان السيد” الرجل الشهم الكريم الذي كان يفتح أبواب بيته للوفد الحكومي وتناول وجبتي الفطور والغداء بمنزله، نحن أكثر من عشرين من أعضاء فريق التفاوض والإعلام، ومن الزملاء أيضا كان الراحل “نجم الدين محمد أحمد” موفد الإذاعة

والأستاذ “كمال حامد

” والدكتور
“خالد التجاني النور” و”السر حسن فضل” وتباعدت مسافات السكن من الفنادق إلى الشقق، وفي ذلك الوقت كان “ماجد يوسف” مفاوضا وكذلك السلطان “محمد يوسف” مدير مكتب “علي الحاج” الذي يقود الوفد ومعه “مطرف صديق” وآخرون. وفي صفوف الحركة الشعبية كان الوفد يضم الراحل “يوسف كوة مكي” و”جاستن ياك” و”سامسون كواجي” وهؤلاء جميعا ذهبوا إلى الآخرة.
2
في تلك المفاوضات تعرفت على الصديق “دينق ألور” لأول مرة في حياتي، شاب يتحدث بثقة وحماس عن أبيي وجبال النوبة وهو يعتقد بأن الحركة الشعبية سينتصر مشروعها إذا استطاعت تحييد البقارة أو استمالة ولائهم من خلال تحالفات سياسية ويعني بالبقارة المسيرية والرزيقات والحوازمة، و”دينق ألور” ودود جدا ولكنه يشعر بمرارة شديدة حينما يتذكر مقتل والدته في أحداث بابنوسة وقد حفرت تلكم الأحداث أخدوداً من الجراح في قلبه وطرحت الحركة الشعبية في تلك المفاوضات رؤية إقامة نظام كونفدرالي أي اتحاد الجنوب والشمال على أساس روابط المواطنة والمصالح العليا ويمنح الجنوب استقلالية في كيفية إدارة نفسه دون تدخل من المركز الذي يتشكل من رئيس الجمهورية ونائبيه أحدهما جنوبي وآخر من غرب السودان، وتعهد لهؤلاء أعمال السيادة الأمن والدفاع والسياسة الخارجية والتخطيط الإستراتيجي الاقتصادي ولكن الحركة طرحت خارطة ضمت مناطق شمالية لأغراض تكتيكية وقد رفضت الحكومة الكونفدرالية حينذاك وقالت دونها الحرب حتى سحق التمرد ونظافة البلاد منه، وطلب وزير الدفاع مهلة حتى الصيف للقضاء على “جون قرنق”.
3
في تلك السنوات كانت أديس أبابا مدينة أغلب بيوتها من الصفيح ونصف شعبها يبحث عن دروب للهجرة الخارجية خاصة للسودان لكن “سيوم مسفن” وزير الخارجية وسيم الطلعة ناعم الوجه كأنه ليس من الثوار الذين خاضوا المعارك حتى سقط “منغستو هيلا مريام” وتبدل وجه إثيوبيا الآن إلى دولة حديثة بسبب سياسات حكيمة ليت السودان تعلم منها في كيف يحافظ على ما تبقى من تراب أرضه.
أقر ثوار إثيوبيا حق الإقاليم الستة حكم نفسها دون تدخل من المركز ونص الدستور على الحكم الذاتي للإقليم ومنح برلمانات الأقاليم حق التصويت بالانفصال عن الدولة الأم في حال إقرار الأغلبية ومنذ ذلك الوقت انتهت قضايا أقاليم بني شنقول ولم يعد هناك من يطالب بالانفصال لأنهم اعتبروا من تجربة انفصال إريتريا وما أكثر العبر في الحياة العامة، واقتصاديا تم إقرار سياسات إصلاح شاملة بمحاربة الفساد وتقليل الإنفاق الحكومي بوقف الحرب مع إريتريا ووجدت إثيوبيا منافذ بحرية من خلال أصدقائها في البلدان المجاورة كالسودان وكينيا وجيبوتي وقبل ذلك خططت لمشروع النهضة الإثيوبية الذي تساقطت ثماره الآن في أرض التعدد ومتحف الشعوب والأمم.

استفادت إثيوبيا من العقول أينما كانت فاستعان “ملس زيناوي” بالخبرات وعمد إلى نهضة بلاده بعيدا عن الصراع السياسي تم إيقاف الحروب وتجفيف منابع الدم وأصبحت إثيوبيا اليوم من أكثر بلدان أفريقيا تطورا ونماء وتمددت خدمات المياه لأطراف الدولة والعلاج المجاني وتصرف الدولة على التعليم اثني عشر مليار دولار في العام، والآن قد تغير وجه العاصمة من الصفيح إلى الجسور الطائرة ومن الشوارع الترابية إلى الأسفلت ومن الشقاء إلى الرفاهية، وقد أصبحت الدولة قبلة للمستثمرين الأجانب وخاصة رأس المال السوداني الهارب من المقاطعة والمناخ الطارد للاستثمار، كل شيء تغير في إثيوبيا لا شوارع محفرة ولا أوساخ ولا برك مياه وسط الأحياء حتى المتسولون في الشوارع تم خفض عددهم بسياسات اجتماعية رشيدة.
ولكن مايزال السودانيون منذ عام 1972 يترددون على العواصم الأفريقية والعربية والأوروبية بحثا عن اتفاق فيما بينهم، واليوم يتخذ أهل السودان من فندق ريدسون سوقا للتلاقي والأنس والحوار، والعالم برمته يضحك على ما يجري هنا من ملهاة، والمعارضة تبحث عن شيء ضاع منها والحكومة تقبض على كل شيء ما بين أول زيارة لإثيوبيا في مهمة هي ذاتها التي حضرت من أجلها منذ أسبوع، تبدلت الوجوه ولكن بقيت القضية هي ذاتها وأصبح مكان “علي الحاج” المهندس “إبراهيم محمود” ومكان ممثل الجيش الفريق “حسان عبد الرحمن” الفريق “عماد عدوي” ومكان “عبد الرزاق الفضل” مدير الاستخبارات اللواء “مصطفى محمد مصطفى” ومكان “عثمان السيد” السفير “عثمان نافع” وحتى التمرد تبدل بعد ذهاب الجنوب فأصبح “أردول” مكان “سامسون كواجي” ومكان “دينق ألور” الدكتور “أحمد عبد الرحمن” ولكن القضايا هي ذات القضايا كأننا لا نتعلم شيئا وننسى كل شيء.