هيثم كابو

بعد ما فات الأوان


(1)
* عندما أحكمت الحاجة قبضتها على أديب إيطالي ذائع الصيت، ولم تعد أذناه تسمعان شيئاً غير صوت معدته الخاوية، لم يستطع الأديب صاحب الروائع المتفق حولها أن يسد رمقه من جوائز الدول التقديرية التي تزين جدران منزله والموت جوعاً يحاصره من كل جانب، فبعث بخطاب لرئيس وزراء إيطاليا قال فيه:
(أعلم جيداً أنكم ستقيمون لنا بعد وفاتنا حفل تأبين يكلف الدولة ملايين الروبيات، ولكننا نود اليوم المساهمة معكم بتوفير ذلكم المبلغ الكبير لخزانة الدولة بقبولنا لبضعة آلاف من الروبيات ندفع بها عنا الموت الآن)..!!
* فكرة تكريم المبدعين بعد وفاتهم باتت جزءا أصيلا من ثقافتنا، ولكن الأخطر منها أن أمثالنا السودانية تساهم مع (صندوق “تجاوز” المبدعين) في ترسيخ ذاك الفهم بطريقة تخاصم الإنصاف؛ و(إن شاء الله يوم شكر ما يجي) ..!
(2)
يوم شكرك جا..!
* فكرة عدم إنصاف شخص ما لكونه لا يزال على قيد الحياة، وانتظار مغيب شمسه وانحسار الأضواء للحديث عنه قد تبدو في شكلها مقبولة من الناحية السايكلوجية للمحطين بك، وربما ترفع (الممتنع عن قول كلمة الإنصاف ساعتها) إلى مراتب التسامى ودرجات النبل إن كنت رجل أعمال مثلاً أو صاحب سلطة، ولكننا إذا نظرنا للفكرة بعمق وعقلانية نجدها تمثل قمة الجحود والإجحاف الذى يصل مرحلة المساءلة الأخلاقية بتهمة الصمت القاتل والصيام عن الحديث في توقيت حساس لإنصاف شخص مبدع في مجاله أو آخر خرج للعمل العام وخدمة الناس..!!
* كلنا شركاء في هذا الفهم الخاطئ نسبة لطبيعة المجتمع الذي نعيش فيه، وتأثيرات نظراته، وقوة سهام (همهماته)، كما أن تركيبتنا السايكلوجية والعصبية ورغباتنا الداخلية تدفعنا للسعي بشتى الطرق للبعد عن الوقوع في مواضع شبهات (كسير التلج)، ولكن علينا إدراك حقيقة أن إنصافنا لمسؤول ما وهو في قمة عطائه – إن وجد عطاء أصلاً – يمثل واجباً أخلاقياً لا بد من القيام به لمصلحة المجتمع (الذي ينظر إلينا بعيون الشك والريبة) لأن الإنصاف في (الوقت المناسب) ربما يوفر جهد الكتابة لكل الذين ينتظرون مغادرة المسؤول للكرسى حتى يتكرموا بالكتابة عنه في (الوقت المثالي)..!!
* اشكروهم أحياء – إن استحقوا ذلك – وأذكروا محاسنهم بعد رحيلهم عن الدنيا، وانصفوهم متى ما قدموا عطاءً يستحق التقدير والثناء.
* متى تنتهى مدة صلاحية المثل القائل: (إن شاء الله يوم شكرك ما يجي)؟ .. أخشى أن تكون الإجابة (بعد فوات الأوان)..!
(3)
سميرة.. (طبعة غير قابلة للنسخ) ..!
* تحملك نبرات صوتها الملائكي إلى عوالم يستعصي على الواقع استحضارها في رقعة الأرض الممتدة، وتأخذك على متن حنجرتها الندية إلى فضاءات بلا نهاية، تماماً كمن قرر أن يتخلص من وزنه الزائد ويمتطي صهوة بساط الريح في رحلة إمتاع شرطها الأساسي أنها (ذهاب بلا إياب)..!!
* متى ما ترنمت بواحدة من أغنيات الحقيبة أو رددت إحدى روائع (عثمان حسين) نالت لافتة (ينتهي الطرب بانتهاء مراسم الغناء) صفعة ساخنة على خدها.
* طريقتها في الغناء تعلن للملأ مدى رهافة حسها وتؤكد (بياناً بالنغم) إن (لمشاعرها صوتاً) بينما تبصم حنجرتها بالعشرة معلنة إن (لصوتها مشاعر)..!!
* أتهمس بالغناء أم تغني بالهمس؟.. لست أدري، ولكني أدرك حقيقة أنها تحرك أحاسيس الجمادات وتفتت وجدان الصخور وتذيب الرواسي الشامخات، من دون أن يبين على حنجرتها رهق، أو تحمل حبال صوتها شيئا من تعب وإعياء، أو يظهر على ملامح وجهها الإجهاد والعناء..!!
* تغني بيسر وسهولة، وتخترق الأفئدة والآذان والوجدان بذات اليسر وتلك السهولة..!!
* الحديث عن المطربة (سميرة دنيا) يعني الوقوف عند الصوت الطروب.. الأداء المنغم.. مخارج الحروف الصحيحة.. النطق السليم.. ولكن سميرة التي بايعها الناس جهراً واختاروها علناً لتصبح الصوت المعبر عن حسهم وأحاسيسهم وتفاعلاتهم وانفعالاتهم لم تعمل على زراعة أعمالها الغنائية الخاصة في أرض الواقع ناسية أن الأغاني الخاصة خير لابد منه، فبنك التاريخ لا يحفظ اسم مطرب بلا رصيد..!!
* نعم، أجادت تماماً في (أغاني السباتة) وكان ألبومها (الغدارة) بمثابة شهادة موثقة تؤكد علو كعب موهبتها، كما أن براعتها الفائقة في أداء أغنيات عثمان حسين شهد بها القاصي والداني، ولكنها لا تزال تتهيب تجربة تقديم المنتوج الفني الخاص وتخشى من ردة الفعل، مع أنه أصبح لها اسم في الساحة، إلا أن هذا الاسم تنقصه أدوات التعريف.
* إعجابي اللامحدود بسميرة دنيا، ومعرفتي بامكانياتها، وانحيازي السافر لها يجعلني أكتب في هذه الجزئية كثيراً وأطالبها مراراً وتكراراً بضرورة تقديم الأغاني الخاصة مرة، وإعادة الطلب مرتين، والطرق على الأبواب عشرات المرات حتى تنفتح المغاليق، فليس هناك ما يدعو للقلق من خوض تجربة تقديم الأعمال الخاصة بكل جرأة وبلا تردد أو وجل، ولكن يا ترى متى ستفعلها سميرة وتنزع أساور الخوف من معصمها؟.
(4)
نفس أخير
* الغناء الخاص (خير) لا بد منه!