طب وصحة

مؤامرة عالميّة.. فيروسات تصنعها الطبيعة أم البشر؟


ربّما هي أشهر قليلة، ونسمع عن ظهور فيروس جديد في بلد ما. نسمع عن إصابات وقتلى واستنفار الطواقم الطبية. تكثر بيانات منظّمة الصحة العالمية قبل أن يختفي كلّ شيء فجأة، في انتظار ظهور فيروس جديد. غالباً، لا نقرأ في وسائل الإعلام عن “سيطرة” على فيروس أو آخر. فقط، تقلّ أخبار الإصابات الجديدة أو القتلى الجدد.. ونخرج باستنتاجنا. وأحياناً، نقرأ عن عمل قائم على لقاحات لهذا الفيروس أو ذاك. يحدث هذا في أوجّ الأزمة، قبل أن يخفت الحديث رويداً رويداً.

أخيراً ظهر زيكا. وبدت صور أطفال في البرازيل مقلقة، وقد ولدوا برؤوس صغيرة. في فبراير/ شباط الماضي، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن العيوب الخلقية المرتبطة بانتشار فيروس زيكا في أفريقيا والأميركيتين وآسيا والمحيط الهادئ، أصبحت تمثّل “حالة طوارئ صحيّة عالمية”، لافتة إلى أنّ الأمر يستدعي استجابة عاجلة وموحّدة في العالم. هذا الفيروس الذي يمكن تجنّب الإصابة به من خلال تجنّب لسعات البعوض الناقلة له، رجّحت المنظمة انتشاره في معظم دول الأميركيتين. وقد حذّرت خصوصاً من إصابة المرأة الحامل بسبب تأثيره على الجنين.

بالنسبة إلى كثيرين، كان الفيروس جديداً. وفي كل مرّة، تعود إلى الأذهان أوبئة مثل الكوليرا أو السلّ وغيرهما من التي قتلت أعداداً كبيرة من البشر تاريخياً. لكنّ زيكا اكتشف لأوّل مرة في أوغندا في عام 1947 لدى قرود الريص، ثم لدى البشر في عام 1952، وتحديداً في أوغندا وجمهورية تنزانيا المتحدة. اليوم، تلاحَظ صلة بين فيروس زيكا وصغر الرأس لدى المواليد الجدد. وقد أوضحت المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية، مارغريت تشان، أنّ “زيكا قادر على عبور حاجز المشيمة وإصابة الجنين. بالتالي، يمكننا الآن الاستنتاج أنّ زيكا قادر على إصابة الجهاز العصبي والتأثير على أنسجة الدماغ وأنسجة المخ الجذعية للجنين”.

سوء فهم

في يونيو/ حزيران الماضي، أعلنت المنظمة أنّ ثمّة حاجة إلى نحو 122 مليون دولار أميركي لتفادي المضاعفات الطبية لفيروس زيكا والتعامل معها، في وقت أكّدت البرازيل معاناة أكثر من 1400 رضيع من صغر حجم الجمجمة، بعدما أصيبت أمهاتهم بالفيروس أثناء الحمل. من هنا، دعت دول عدّة النساء المصابات بالفيروس إلى الإجهاض، الأمر الذي قوبل برفض من جهات عديدة، من بينها الكنيسة الكاثوليكية. رئيس أساقفة ليما، الكاردينال الكاثوليكي خوان لويس تشيبرياني، أعلن أنّ فيروس زيكا مؤامرة كاذبة لقتل الأجنّة وتشريع الإجهاض، واصفاً الأمم المتحدة بـ “هيرودس العصر”.

ليس تشيبرياني وحده من يعدّ زيكا مؤامرة. في فبراير/ شباط الماضي، كتب مايكل سبكتر في صحيفة “نيويوركر” الأميركية أنّ أحد استطلاعات الرأي أشار إلى أنّ أكثر من ثلث الأميركيين يظنّون أنّ البعوض المعدّل وراثياً تسبّب في انتشار زيكا. ورأى في هذا “سوء فهم خطيرا”، موضحاً أنّ لهذا البعوض دوراً في السيطرة على زيكا. وقيل إنّ الشركة البريطانية “أوكزيتيك” هي التي عملت على تعديل البعوض وراثياً لمكافحة انتشار حمّى الضنك، ما تسبب في انتشار فيروس آخر (أي زيكا).

من جهته، قال البروفسور ديفيد برونياتوسكي من جامعة “جورج واشنطن”، إنّه على الرغم من وضوح العلم نسبياً، “وجدنا نظريات مؤامرة عديدة يمكن أن تؤثّر على القرارات المتعلقة بصحة الناس”. أضاف: “لسوء الحظ، فإن الناس الأكثر تضرراً ينتمون إلى المجتمعات الأضعف، وهم لا يستطيعون الوصول إلى المعلومات دائماً”.

إلى ذلك، قال العالم الهندي م. دورغابراساد من منظمة تطوير الأبحاث الدفاعية، إنّ فيروس “إيبولا” قد يكون جزءاً من الحرب البيولوجية في العالم، فيما رأى آخرون أنّه قد يكون من صنع الإنسان، أو ساهمت شركات الأدوية في انتشاره بهدف بيع العلاجات.

وكانت صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية قد نشرت مقالاً تناولت فيه الأمراض التي تعاني منها القارة الأفريقية، والتي يُعدّ بعضها أخطر من فيروس إيبولا. وأفادت بأنّ إيبولا خلّف آلاف القتلى في دول غرب أفريقيا التي تفشى فيها خلال سبعة أشهر. لكن في الفترة نفسها، وصل عدد ضحايا الجوع إلى أربعين ضعفاً بالمقارنة مع عدد ضحايا إيبولا، فيما وصل عدد ضحايا الملاريا إلى 70 ضعفاً. وحتى مارس/ آذار من عام 2015، أعلنت منظمة الصحة العالمية أنّ أكثر من 24 ألف شخص أصيبوا بإيبولا، وقد توفي منهم نحو 10 آلاف في ليبيريا وسيراليون وغينيا.

سلاح بيولوجي

في سياق متّصل، اتّهمت صحيفة “برافدا” الروسية الولايات المتحدة بأنّها قد تكون صنّعت فيروس إيبولا “ليكون سلاحها البيولوجي الجديد”. وسألت عن “سبب ظهور إيبولا الآن، ولماذا تحتكر واشنطن اللقاح المضاد للفيروس، علماً أنّ علماء في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عملوا على تطوير لقاح لهذا الفيروس قبل 30 عاماً”.

ومع ظهور فيروس “سارس” (متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد) في الصين في عام 2003، قال العالم الروسي، العضو في الأكاديمية الروسية للعلوم الطبية، سيرغي كولسنيكوف، إنّ “السارس توليفة للحصبة والنكاف. ولا يمكن تكوين هذه التوليفة في عالم الطبيعة”، مشيراً إلى “صنعه في ظروف مخبرية”.

في هذا الإطار، تشرح طبيبة الأمراض الجرثومية رلى حسني لـ “العربي الجديد”، أنّ “الوباء عبارة عن ميكروب ينتشر بين الناس بطريقة تلاحظها الطواقم الطبيّة، ويحدث نتيجة تغيّر في نوعيّة الميكروب. على سبيل المثال، نشهد أنواعاً جديدة من الإنفلونزا عاماً بعد عام”. وتشير إلى أنّ “إيبولا وزيكا فيروسان قديمان، وقد ظهرا مجدداً نتيجة تغيّرات في نوعية الميكروب. وتوضح أنّ الظروف الاجتماعية تساعد على انتقالها من شخص إلى آخر. على سبيل المثال، يختلف إيبولا عمّا كان عليه في السابق”. تضيف: “حين يموت الشخص المصاب بإيبولا، يبقى المرض في جسم الميّت لبعض الوقت. وبحسب عادات الدفن في المناطق التي انتشر فيها، يلامس الناس الجثة أو يستخدمون ثيابه وغيرها، وهو أمر يؤدّي إلى انتقال المرض إلى آخرين، وبالتالي انتشاره بسرعة. من جهةٍ أخرى، لم تكن ثمّة معطيات طبية كافية للحدّ من انتشاره، من خلال عزل المريض مثلاً أو ارتداء الطواقم الطبية ملابس واقية أو الإسراع في الدفن وربّما إحراق الجثة”.

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإنّ إيبولا الذي كان يعرف سابقاً باسم حمى إيبولا النزفية، قتل ما نسبته 50 في المائة من المصابين. لكن في ما مضى، تراوحت النسبة ما بين 25 و90 في المائة. وظهر فيروس إيبولا لأوّل مرة في عام 1976 في كل من نزارا في السودان ويامبوكو في جمهورية الكونغو الديمقراطية، القريبة من نهر إيبولا. وتوضح المنظمة أنّ هذا الفيروس الذي انتشر أخيراً في غرب أفريقيا، وقد أُبلغ عن أول حالة في مارس/ آذار في العام 2014، هو أكثر تعقيداً، خصوصاً أنّه تسبب بوفيات أكثر. في البداية، انتشر في غينيا ثم سيراليون وليبيريا ونيجيريا والولايات المتحدة والسنغال ومالي. علمياً، يُعتقد أنّ خفافيش الفاكهة من فصيلة بتيروبوديداي هي المضيف الطبيعي لفيروس إيبولا، الذي ينتقل إلى تجمعات السكان البشرية عن طريق ملامسة دم الحيوانات المصابة أو أعضائها أو إفرازاتها أو سوائل أخرى منها.

لقاحات

بالنسبة إلى حسني، فإنّ “زيكا فيروس قديم أيضاً. لكن هذه المرّة، تبيّن أنّه يمكن أن يصيب المرأة الحامل، ما قد يشير أيضاً إلى تحوّل في نوعية الميكروب”. وعن سبب انتشار هذه الأمراض في مناطق معيّنة دون أخرى، تشرح أنّ “بعض الميكروبات تظهر بسبب معايير معيّنة. الملاريا مثلاً يحمله بعوض الملاريا. حتى إيبولا موجود في أنواع من الحيوانات ليست في بلادنا”. تضيف حسني أنّ “فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (انتشر في السعودية) هو أيضاً فيروس قديم يؤثّر على الجهاز التنفسي، إلا أنّ تأثيره بات أقوى من قبل”. وتعزو سبب زيادة عدد الضحايا إلى “عدم اكتشاف الفيروس باكراً، ما حال دون اتخاذ الإجراءات اللازمة في بداية ظهوره”. وتلفت إلى أنّه “بعدما عمدت السعودية إلى عزل المرضى، لم يعد المرض ينتقل من شخص إلى آخر كما في السابق”. تجدر الإشارة إلى أنّ في مايو/ أيار الماضي، أعلنت وزارة الصحة السعودية وفاة 588 شخصاً بهذا المرض منذ ظهوره في العام 2012.

وعن سبب عدم صنع لقاحات لهذه الفيروسات، خصوصاً أنّها قديمة وقد أدّت إلى موت كثيرين، تشير حسني إلى أنّ “اللقاحات تُطوّر إذا كانت ثمّة مشكلة صحية عامة، من قبيل الإنفلونزا. أمّا الأمراض التي تظهر كل عشر سنوات على سبيل المثال أو أكثر، ولا تقتل عدداً كبيراً من الناس، فهي لا تُعدّ وباء ذا أهمية في الصحة العامة، بالتالي يعمل المتخصصون على علاجها من دون لقاحات، خصوصاً أنّ كلفة تصنيعها تتجاوز ملايين الدولارات”.

بعد كلّ ما سبق، تقول حسني إنّ لا أدلّة على وجود “مؤامرة” في ما يتعلق بظهور الفيروسات المختلفة. وهي تؤمن بالعلم وتطوّر الميكروبات والبيئات الحاضنة، “بدليل أنّ هذه الفيروسات ليست جديدة، وإن يمكن لبعضها أن يكون أخطر في الوقت الحالي”. وتوضح أنّ “الأجهزة الطبية في العالم باتت أكثر تطوراً، وأكثر قدرة على اكتشاف الأمراض في وقت مبكر، ما يحدّ من انتشارها”. وتشرح أنّه “لو كانت السعودية قد تمكنت من تحديد كورونا في وقت مبكر، لكانت قد اتخذت الإجراءات اللازمة على الفور، ولكان عدد الضحايا أقل”.

على موقع منظمة الصحة العالمية، نقرأ: “نظراً لأنّ مرحلة الطوارئ في الاستجابة لأسوأ حالة تفشّ لفيروس إيبولا في التاريخ أصبحت في سبيلها إلى الانتهاء في كل من غينيا وليبيريا وسيراليون، تجد البلدان الثلاثة نفسها أمام مهمة عاجلة وضخمة، وهي بناء نظم صحية قادرة على الوقاية من الفاشيات وكشفها والاستجابة فيها”. وفي حين أنّ إيبولا حصد أرواح 4000 شخص، يلقى في سيراليون 26 ألف طفل حتفهم سنوياً لأسباب أخرى مثل الملاريا والحصبة، علماً أنّ ثمّة لقاحات لهذَين المرضين. وفي لبنان، تشير حسني إلى انتشار مرض الالتهاب الكبدي أخيراً، نتيجة غياب عوامل النظافة بصورة أساسية.

لا شكّ في أنّ منظمة الصحة العالمية تسعى إلى توعية الناس حول مختلف الفيروسات والأمراض، في وقت تساهم وسائل الإعلام التقليدية والحديثة في إثارة الهلع حول العالم، ضمن سياسة انتقائية. وبينهما، تكثر التحليلات، والحديث عن مؤامرات في ظل صراعات لن تنتهي. ووسط غياب أدلّة ملموسة، سوف تبقى التكهنات وسوف يظل كل فريق قادراً على تقديم براهين. أمّا منظمة الصحة، فتركّز على التطور الطبيعي للفيروسات وتؤكد على عمل الأطباء على إنقاذ الأرواح.

العربي الجديد