رأي ومقالات

أخيراً .. حسناً فعلت يا وزير الإرشاد


التصريح الذي أدلى به د. عمار ميرغني حسين وزير الإرشاد والأوقاف عقب لقائه بوفد هيئة علماء السودان بغرض التباحث والتفاكر حول قراره القاضي بمنع الحديث الديني والوعظ بالأسواق والطرقات العامة ، تصريح يحمل في طيَّاته بشريات مهَّدت لبث روح التفاهم وفتح باب الحوار والنقاش بدلاً من صرع القوى وتصارع الأفكار بين المصلحين والدعاة إلى الله ، حيث أكد على أن وزارته تسعى مع الكيانات الإسلامية والدوائر ذات الصلة كافة ، لضبط الخطاب الديني وتنظيمه ، مبيناً أن قراره بمنع الخطب الدينية والوعظ في الأماكن العامة ليس لمنع الخطاب الديني بل لتنظيمه ، مشيراً إلى أن قراره الأخير ليس المقصود منه منع الخطاب الديني كما فهم البعض بل لتنظيمه .

ليت الوزير شرح رؤيته هذه إبان إصداره القرار ؛ لكان وقعه أقل تأثيراً على الجميع ، ولكنه أخذ يبرر ويدافع ويتمنَّع ، بل حتى اللغة التي خرج بها القرار كانت قاسية وبها جمود وتحجيم لمفردات اللغة السهلة والمنبسطة ، فكلمة ” منع ” و ” إيقاف ” كلمات حاسمة ولا تقبل الاحتمالات .

وليت الوزير قبل إصدار القرار جلس مع الهيئات الشرعية والإسلامية والتيارات الإسلامية والمصلحين وذكر لهم مبرراته التي كان يرددها لتمرير قراره ، وليته أدار معهم حواراً حول الخطاب الدعوي وضوابطه لمعالجة الأخطاء أو التفلتات اليسيرة ، فالساحة الدعوية ليست مبرأة من العيوب والدعاة ليسوا ملائكة ، والسيد الوزير هو الشخص الأول والمسؤول عن رعاية ورسم السياسات العامة لخارطة العمل الدعوي والإرشادي على طول البلاد وعرضها ، ولكن أن تأتي وتصحح وتفسر الرؤية حول القرار متأخراً ؛ خيراً من أن لا تأتي ولا تُفسِّر .

ما زلتُ على قناعتي بأن العمل الدعوي والدعاة بحاجة لقيام مؤتمر الحوار الدعوي لمناقشة القضايا الأساسية وأولويات قضايا وفقه الدعوة إلى الله ، والاتفاق بين جميع التيارات الإسلامية على ضرورة توحيد الكلمة والتركيز في الدعوة على الأساسيات وفقه الأولويات بجانب وحدة الصف لمجابهة التحديات الداخلية والخارجية التي تحيط بالإسلام والمسلمين إحاطة السوار بالمعصم .

التحركات والمرافعات الكثيفة التي كان لها الفضل – بعد فضل الله سبحانه وتعالى – أسهمت كثيراً في توضيح وتصحيح الوزير للصورة القاتمة التي حامت حول قراره ، حيث قال بأن القرار قُصد منه التنظيم ووضع الضوابط للخطاب الدعوي وليس منعه وإيقافه ، وهذا ما كان يدندن حوله المصلحون في لقائهم مع الوزير واجتماعتهم .

وتعتبر جماعة أنصار السنة المحمدية أول من استنكر ورفض قرار إيقاف الحديث الديني في الأسواق والأماكن العامة وجلسوا مع الوزير وبيَّنو موقفهم من القرار وأنهم مع وضع الضوابط وتنظيم العمل الدعوي ، وساقوا في هذا الاتجاه أدلةً صحيحة وصريحة من القرآن والسنة النبوية المطهرة على أهمية تقديم الدعوة إلى الله في أي زمان ومكان ، متكئين على إرث وتراث مشايخ الجماعة الأوائل الذي ابتكروا هذا الأسلوب الدعوي في أواخر ستيينات القرن الماضي ، وكشفت هذه الأدلة التي ساقتها الجماعة عن قوة حجتهم واستدلالهم ورجوعهم لمصادر التشريع ، وكان لحديثهم وتصريح د. إسماعيل عثمان محمد الماحي الرئيس العام للجماعة أثراً كبيراً في تغيير الصورة وقلب الموازين وبيان عدم شرعية منع وإيقاف الحديث الديني في الأسواق والأماكن العامة ووصفت الجماعة القرار بأنه ” غير موفق وغير شرعي ” ، بل ذهبت الجماعة إلى أبعد ذلك ولوَّحت باللجوء للقانون والدستور . وتوالت بعد رفض جماعة أنصار السنة للقرار ردود الأفعال وتعتبر هيئة علماء السودان – وهي أعلى جهة علمية طوعية في البلاد – بكامل عضويتها من الجهات التي وقفت بقوة ودافعت عن حق الدعاة في ممارسة شعيرة الدعوة إلى الله ، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ، ويعتبر التصريح القوي والشجاع الذي تفضَّل به البروفسور محمد عثمان صالح الرئيس العام للهيئة بدعوته لتجميد القرار ، يعتبر قراراً موفقاً ومشرِّفاً للهيئة وسيسجَّل في تاريخها بمداد من ذهب . وتوالت بعد ذلك عبارات الاستنكار والرفض للقرار من الجهات والشخصيات والدعاة وتحركت كثيرٌ من الأقلام مدافعةً ومناصحة للوزير ولمن يقف خلف القرار .

هناك نقطة مهمة في حديث وزير الإرشاد والأوقاف في ثنايا حديثه الأخير والذي نشرته صحف الأربعاء وهي : ” وأشار الوزير إلى رؤية وزارته الإصلاحية الشاملة وشروعه في وضع الضوابط القانونية للعمل الدعوي للنهوض به على الأصعدة كافة ” . وحتى لا تلدغ الوزارة من الجحر مرتين ؛ يجب على القائمين على أمرها أن يراعوا عدم التسرع في اتخاذ القرارات مع أهمية استصحاب أهل الشأن ومشاروتهم قبل إصدار القرارات ، إذ الشورى أمر رباني (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وفيها حفظ وتقدير أهل الاختصاص وإصابة الصواب ومجانبة الخطأ أو التقليل منه .

والدعوة إلى الله أرضٌ بور ؛ تقبل الغرس والزرع من الجميع ، شرطاً أن تكون البذرة سليمة وصحيحة والماء صالح ونافع ، حينها سينبتُ الزرع وينمو إذا ما وجد الرعاية والاهتمام والتوجيه والمؤازرة وسيرى الناس الثمار ؛ أما الذي خبث فلا يخرج إلا نكدا ! .

والدعوة إلى الله ليست محصورةً على حملة الشهادات العليا وخريجوا الجامعات الفخمة ؛ وحفظة القرآن الكريم ، وليست كذلك حكراً على من غاص في بطون الكتب وأمهات المراجع ، بل كل من عرف ولو آية واحدة عليه أن يبلِّغها ، بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى : (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بل وحتى الجدال والنقاش يجب وينبغي أن يكون بالتي هي أحسن ، مع اجتناب الفظاظة والغلظة في الخطاب واستخدام أساليب الترغيب والتحبيب والترهيب تارة تارة ، كما قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) . كذلك من رأى منكراً أياً كان ويقدر على تغييره من دون ضرر أكبر يترتب على إنكاره فيجب عليه أن يغيره ، سيما وبلادنا الحبيبة تحتاج كثير من مناطقها لمن يُعرِّف الناس بخالقهم ومعبودهم وتوحيد الله وإفراده بالعبادة ويعلمهم أصول الإسلام وأركانه ، والفيديو الذي انتشر في منطقة (وادي العروس) خير دليل .

واقترح على اللجنة الاستشارية التي ستضع الضوابط لتنظيم الخطاب الدعوي أن تسترشد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بعث معاذاً إلى اليمن ، فعن ابن عباس – رضى الله عنهما – أن رسول الله لمَّا بعث معاذاً إلى اليمن قال له : ” إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – وفى رواية : إلى أن يوحدوا الله – فإن هم أطاعوك لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليله ، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤحذ من أغنيائهم فترد علي فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك ، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلموم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ” . أخرج الحديث البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارمي ، وأحمد .

ونستخلص من هذا الحديث فوائد جمَّة أهمها أن يبدأ الداعي بالأهم فالأهم ، وأهم ما بدأ به الأنبياء والمرسلون دعوتهم ، الدعوة لتصحيح العقيدة ونبذ البدع ومحدثات الأمور ومحاربة الخرافات والدجل والشعوذة ، وتصحيح العقيدة يعبتر أساس الإسلام ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) . وجميع العبادات الأخرى من صلاة وصيام وزكاة وحج وصدقة وغيرها ، إذا أداها المسلم وقام بها حق القيام وهو يعتقد أن غير الله – أياً كان نبياً أو ولياً أو حجراً أو شجراً – يعلم الغيب أو يرضى أن يُستغاث به أو يستعان به فيما لا يقدر عليه إلا الله أو يطاف بقبره ويُسأل قضاء الحاجات ، فإن عباداته هذه كلها مردودة عليه كما قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) .
أخيراً أقول للسيد الوزير الرجوع إلى الحق خير من التمادى والإصرار على الباطل ، ننتظر أن ينظر الوزير بعين العدل والمساواة بين الجهات الإسلامية والجماعات على مسافة واحدة وعدم استخدام عصا السلطة في تصفية الحسابات فضلاً عن تغليب المصالح الشخصية والطائفية على المصالح الدعوية والأمنية والاجتماعية تصحيحاً للمسار وممارسة راشدة لبذر بذور الحق والخير والجمال في أرض الوطن ، والتنظيم له الياته وليس بالقرارات الفوقية .

عمر عبد السيد


تعليق واحد

  1. يا فرحة ما تمت … بصراحة حكاية الدعوة إلى اللله والتوحيد في الأسواق والأماكن العامة عاملة قلق شديد لبعض الصوفية