مقالات متنوعة

د. عارف عوض الركابي : (هرطقة) في حكم إمامة المرأة للرجال في الصلاة


توقعتُ أن الدعوة لإمامة المرأة للرجال في الصلاة في قد دُفنت في بلادنا مع دفن الداعي لها في الفترة الأخيرة د. حسن الترابي، وكنتُ قد رددتُ على ما دعا إليه في هذه المسألة في مقال وهو ضمن ردّي عليه في مسائل عديدة، وقد طبعت الردود في الكتاب المنشور (الكترونياً) بعنوان : (بيان كمال الدين والانتصار لسنة خاتم النبيين) صلى الله عليه وسلم وهي المادة التي نشرت في شريطين سمعيين بعنوان : (الردود الشرعية على الآراء الترابية) .. ولكن خاب ظني عند اطلاعي في هذه الأيام على تجديد الدعوة من أحد أتباعه الذي دعا إلى أن تصلي المرأة بالرجال صلاة الجمعة وفي رسالة متداولة تحديد مساجد معينة، وهماً منه أنه بذلك يكون المجتمع قد حقق التسوية بين الرجال والنساء !! وكما قيل : (لكل قوم وارث) ..!! وفات على المسكين أن الشريعة جاءت بالعدل في أحكامها لكنها لم تأتِ بالمساواة في مثل هذا الباب، وفرقٌ بين العدل وبين المساواة ؛ فالعدل قد يكون في المساواة وقد يكون في غير المساواة، وقد نشرتُ عدداً من المقالات في بيان هذه القواعد بهذه الصحيفة، ونشرت مادة علمية في عدة مقالات من كتابي في نقض اتفاقية (سيداو) في ضوء مقاصد الشريعة .. إن الدعوة إلى أن تؤم المرأة الرجال في الصلاة هو أحد الآراء الشاذة المخالفة للنصوص الشرعية الثابتة وعمل المسلمين، وهذه المسألة قد بينها أهل العلم والفقه في كتبهم. وبعض المسائل هي من الوضوح بمكان فلا تحتاج إلى توضيح، لكني من باب الفائدة ونشراً للعلم أضع بين إخوتي وأخواتي القراء الكرام ما جاء في المذاهب الأربعة في هذه المسألة، باختصار راعيت به المساحة المتاحة لهذا المقال . ·في المذهب الحنفي؛ جاء في (حاشية ابن عابدين على الدر المختار2/306) قوله: «فتفسد صلاة الكل، أما الرجال والإمام فلعدم صحة اقتداء الرجال بالمرأة». ·وأما المذهب المالكي فقد جاء في (تهذيب المدونة 1/253) قوله: «ولا تؤم المرأة» فإن المالكية ـ وهو مذهب أهل السودان ـ يرون أن المرأة لا تؤم حتى النساء فضلاً عن الرجال!! جاء في كتاب (الإشراف 1/296) للقاضي عبد الوهاب البغدادي ـ رحمه الله تعالى ـ قوله: «لا يصح الائتمام بالمرأة للرجال وللنساء» وبين ـ رحمه الله ـ أن هذا هو المذهب المعمول به في المذهب المالكي، مع أن إمامة المرأة للنساء قد ثبتت، وهي جائزة ومشروعة وهو القول الراجح. وأما المذهب الشافعي فقد جاء عن الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه (الأم)(1/164) وقوله: «وإذا صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور، فصلاة النساء مجزئة، وصلاة الرجال والصبيان الذكور غير مجزئة؛ لأن الله ـ عز وجل ـ جعل الرجال قوامين على النساء وقصرهن على أن يكن أولياء وغير ذلك، ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبداً؛ وهكذا لو كان ممن صلى مع المرأة خنثى مشكل لم تجزئه صلاته معها» أي: حتى الخنثى المشكل لا تصح صلاته خلف المرأة فكيف بالرجل. وأما المذهب الحنبلي فإنه لا يختلف عن هذه المذاهب في عدم إجازته صلاة المرأة بالرجال. فقد أشار العلامة الموفق ابن قدامة في كتابه (المغني)(2/35) أشار إلى اختلاف الفقهاء في جواز صلاة النساء بالنساء، فضلاً عن صلاتها بالرجال، وجاء في كتاب (منتهى الإرادات) (1/304) لابن النجار الحنبلي قوله: «ولا تصح إمامة امرأة وخنثى لرجال»، وجاء في الحاشية علي هذا الكتاب (حاشية ابن قائد) (1/304)قوله: «اعلم أن الإمام إما أن يكون رجلاً أو امرأة أو خنثى والمأموم كذلك، وثلاثة في ثلاثة بتسع، تصح الإمامة في خمس منها: وهي إمامة الرجل برجل، أو امرأة، أو خنثى، وإمامة خنثى بامرأة، وإمامة امرأة بامرأة، ولا تصح في أربع وهي: إمامة امرأة برجل ……» إلى آخر ما ذكر رحمه الله. وقال ابن رشد في كتابه (بداية المجتهد 2/289)«وإنما اتفق الجمهور على منعها من أن تؤم الرجال؛ لأنه لو كان جائزاً لنُقل ذلك عن الصدر الأول؛ ولأنه أيضاً لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال عُلم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم». وقال المحقق الشوكاني : (لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء، ولا وقع في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوفهن بعد صفوف الرجال). هذه النقول توضح ما عليه أئمة الفقه عند المسلمين في مسألة إمامة المرأة للرجال الصلاة، وقد تبين من خلالها بوضوح عدم جوازها . ولا أدري هل وقف ـــ من يهرف بما لا يعرف في ذلك ـــ على هذه الكتب والمذاهب أم لا ؟!! أم أنه يريد فقهاً غير هذا الفقه، وأحكاماً غير هذه الأحكام؟؟ أم هو التشويش والتشغيب والتشكيك ؟!! وأنىَّ للمتكلم في دين الله بغير حجة ولا برهان ذلك، ولن يجد لذلك سبيلاً، ويبقى أن من يأتي بمثل هذه (الهرطقة) أن يحكم عليه عامة الناس قبل علمائهم بأنها مجرد شغب وتشويش يضحك عليه من يطلع عليه، أو يأسى له من يشفق عليه. وأما حديث أم ورقة رضي الله عنها في ما روى الإمام أحمد وغيره عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصارية رضي الله عنها وكانت قد جمعت القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، وكانت تؤم أهل دارها. فقد قال ابن قدامة ـــ رحمه الله تعالى : (إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها، كذلك رواه الدار قطني، وهذه زيادة يجب قبولها، ولو لم يذكر ذلك لتعيّن حمل الخبر عليه، لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض، بدليل أنه جعل لها مؤذناً، والأذان إنما يشرع في الفرائض ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض). قلتُ : لقد دخل رجل على ربيعة بن عبد الرحمن التابعي الجليل وأحد شيوخ الإمام مالك فوجده يبكي فقال له : ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له : أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم.. ثم قال ربيعة في شأن الجهال حين يتزعمون الناس، ويخرجونهم بفتاواهم عن الحق ..قال: (ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق) أورده ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله”.وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى في تصديه لشبهات سلف المشككين في تشريعات وأحكام الإسلام : (وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلفت إليه، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها، وخيف عليه أن يحسن الظن بها أو أن يضل، فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السراق والخونة، الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة.فإن هؤلاء: غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله، وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سبباً لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء: فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمناً ولياً لله، فيصير منافقاً عدواً لله). اللهم اكفنا شر كل ذي شر واكفنا شر الرويبضات ..