الطيب مصطفى

الدين ليس إحتفاءً بالصغائر


ونواصل مع أحد أعلام المدرسة الوسطية الشيخ العلامة محمد الغزالي ونستعرض بعض كلماته النيرات التي يحتفى فيها بعظائم الأمور عوضاً عن محقراتها التي ينشغل بها أصحاب العقول الصغيرة.

أخبرني صديق أن إحدى المجلات الدينية هاجمتني لأنني قلت: إن الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح! ورأت أن الغناء شر كله! قلت للصديق: قد يكون الخطأ قريباً مني فلست معصومًا وعذر هؤلاء أن أغلب الأغاني الشائعة خليع ماجن، وأن البيئة الفنية هابطة المستوى.قال: كأنك تقترب منهم، وددت لو جمعتكما ليزول الخصام! فأجبت على عجل: لا أحب هذا اللقاء! هناك مثل غربي يقول: إن ضعفاء العقول كالنظارات المكبرة تضخم الأشياء الصغيرة ولا ترى الأشياء الكبيرة.

وكان جديراً بأصحابك هؤلاء أن يكترثوا لمصائب المسلمين الداهمة بدل أن يشغلوا الناس بقضية الغناء!إن غول الاستبداد السياسي استهلك شعوبنا من أمد بعيد، ولم نسمع لهؤلاء نواحًا على حرية موءودة، ولا بكاء على شورى مفقودة، إن صمتهم حيث يجب الصياح وصياحهم حيث يجب الصمت يجعلني أزهد في رؤيتهم والاستماع إليهم ويجعلني أدعو الله أن يريح الإسلام من علومهم ودعاواهم.

ومن بضعة شهور توافد عليّ عدد من الرجال والنساء بدا لي من دراسة أحوالهم أن أعصابهم مرهقة ومآسيهم ثقيلة وأنهم بحاجة إلى علاج مادي ومعنوي.وزعم لي أكثرهم أن به مساً من الجن، فأنكرت مزاعمه وأشرت عليه بما يجدي في معافاته! ولكنهم ألحوا في الزعم بأن الجن خالطتهم! فقلت كلمة شاعت وتناقلتها الإذاعة: هل الجن تخصص في ركوبكم وحدكم؟ لماذا لم يشك الناس في العالم الأول من عبث الجن بهم؟
وازددت شرحاً لرأيي في أمرهم، وهنا جاءني واحد من قراء الكتب الدينية يقول في غضب شديد: أتخالف ابن تيمية؟ فأسرعت أقول له: كلا! أنني أيدته كل التأييد حين خالف الأئمة الأربعة ورفض الطلاق البدعي وأمضى الطلاق السني وحده!

قال: لا أعني هذا، إنه كان يستخرج الشيطان من جسم الإنسان، ويقول له: أخرج عدو الله! فيهرب! قلت له: ليكن ما تقول صحيحاً أو سقيماً، مالي أراك محمر الوجه منتفخ الأوداج شديد البأس مستعداً للقتال؟ إن شياطين الإنس احتلوا دار الإسلام عسكرياً وسياسياً، فلم يتجهم وجهك، ولم تطلب نزالاً ولا سمعنا لك ولا لأمثالك مقالاً..!!

إن هناك متدينين ضعفاء العقول! في فقههم ضمور شديد، وفي فكرهم خلل مبين وصل بعضهم إلى المجالس التشريعية، فكنا نبذل جهوداً مضنية لنواري سوءاتهم العقلية! وأحكامهم الطفولية.ألا فيلعلم الناس أن الدين عقل مؤمن، وثقافة محكمة وليست احتفاء بالصغائر وتجسيماً للأوهام.

التي فقدت زوجها

تربية الأولاد عبء مشترك يحمله الزوجان معاً، وأنه لقدر طيب أن يشب الأولاد في حضانة أبويهم مستمتعين بدفء العاطفة وحسن الكفالة.لكن الريح لا تهب رخاء دائماً، وطبيعة الحياة الابتلاء بالخير والشر، فقد يفقد الأولاد الكافل الحاني، فتبقى الأم أيماً والأولاد يتامى! وتوفُّر الأم على صون أولادها ـ والحالة هذه ـ من أجل القربات التي تبلغها أعلى الدرجات! روى أبو داود عن عوف بن مالك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة ـ مشيراً بأصبعيه السبابة والوسطى ـ امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا”.

والجميلة التي تهمل زينتها انشغالاً بأولادها حتى يتغير وجهها امرأة مقدورة الفضل مرموقة المكانة، لكننا نتساءل: أكل النساء مطالبات بهذه التضحية؟ أظن أن هناك ملابسات كثيرة تحدد موقف الأيم ومصير يتاماها! منها سن الزوجة، وغناها أو فقرها، وأعمار الأولاد ووضع المتقدم إليها الديني والاجتماعي! فقد يتقدم إليها قريب أو تقي يحسن معاملة الأولاد.ولذلك نترك للزوجة التي فقدت رجلها أن تتصرف بما يحقق لها ولأولادها المستقبل الأطيب.

عندما قتل جعفر الطيار في معركة مؤتة، وكان شابًا حول الثلاثين، تاركًا زوجته وأولاده لم تمض فترة طويلة حتى تزوجت المرأة أبا بكر الصديق وحسناً فعلت وقد رعى الله أولادها خير رعاية.ويحكي التاريخ أن عاتكة بنت زيد، وكانت صحابية أديبة ذات جمال وكمال ورأي، قتل زوجها عبد الله بن أبي بكر، فتزوجها من بعده عمر بن الخطاب فلما قتل عمر رضى الله عنه تزوجها الزبير بن العوام، فلما قتل الزبير بوادي السباع في الفتنة الكبرى تزوجها الحسين بن عليّ رضى الله عنه، فلما قتل بكربلاء كانت أول من رفع خده عن التراب ثم ترملت بعده فلم يسع إليها أحد!

ومن الطرائف أن عبد الله بن عمر كان يقول: من أراد الاستشهاد فليتزوج عاتكة! لقد قتل أزواجها كلهم، ولا علاقة لها بهذه المصاير، وإنما هي أقدار!! وتحفظ لها كتب الأدب هذه الأبيات في رثاء أول زوج لها، عبد الله بن أبي بكر!

آليت لا تنفك عيني حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

فلله عيناً من رأى مثله فتى أكر وأحمى في الهياج وأصبرا

إذا أشرعت فيه الأسنة خاضها إلى الموت، حتى يترك الموت أحمرا

إنها عاطفة صادقة بيد أنها موقوتة، وللحياة تيارها الدافق المطرد، والإسلام لا يقوم جندلاً أمام غرائز الفطرة وطبائع الرجال والنساء.المشكلة أن الناس يريدون إخضاع الدين لتقاليدهم الخاصة، ولو كانت هذه التقاليد في عكس اتجاه السلف الأول وفطرتهم السليمة.