د. ياسر محجوب الحسين

الخرطوم في قبضة التضخم الحلزوني


في تراجع غير مسبوق واصل الجنيه السوداني ترنحه أمام العملات الأجنبية، وانخفض في السوق السوداء أو الذي يسمى تجملا بالسوق الموازي ليبلغ أكثر من 16 جنيها مقابل الدولار مع ارتفاع كبير للجنيه الإسترليني واليورو والعملات الخليجية.. وترتب على الارتفاع التصاعدي للدولار اشتداد موجة الغلاء مما يشير إلى فقدان الجنيه السوداني لقيمته كعملة نقدية التي يفترض أن تكون مقياسًا للقيمة ومخزنًا لها.. ويقول الاقتصاديون إنه كلما اشتدت موجة الغلاء انخفضت قيمة النقود وشاعت الفوضى داخل الاقتصاد المحلي، وفي أقصى درجات التدهور قد يتخلَّى الناس عن العملة الوطنية، ويلجئون إلى مقاييس أخرى للقيمة.

وقد شهدت ألمانيا في أوائل العشرينات من القرن الماضي تدهورا مريعا في عملتها بعد ما قامت الحكومة بطبع النقود بمعدلات مرتفعة لتغطي نفقاتها.. وبلغ ضعف العملة حدا أن لجأ كثير من الألمانيين إلى نظام المقايضة، واستخدام السلع بدلا من النقود كأن يتم تحديد سعر رغيف الخبز باثنين أو ثلاث بيضات مثلا. وما يشهده السودان من تضخم مخيف، يسميه أهل الاقتصاد بالتضخم الحلزوني، حيث تؤدي زيادة الضغوط على الأسعار إلى ردود أفعال تُنتج المزيد من التضخم، وخطورة هذا النوع من التضخم أنه يغذي نفسه بنفسه.

ويقول اتحاد العمال السوداني إن الأجر الذي يتقاضاه العامل لا يكفي إلا بمقدار 10% من تكلفة المعيشة، وطالب الاتحاد المحسوب على الحكومة في بيان له الأسبوع الماضي بزيادة الأجور لعدم كفايتها الحد الأدنى للمعيشة.. وفي ذات الأسبوع عمدت الحكومة على زيادة أسعار غاز الطبخ، للمرة الثانية في غضون أربعة أشهر. فيما تدرس أيضا خيار تحرير الخبز تحريرا كاملا، على نحو ما حدث مع الغاز، وهو ما يعني أن زيادات كبيرة ستطرأ على سلع أساسية.

لن تنجح الخرطوم في كبح جماح الدولار في ظل عدم الإنتاج والندرة الموجودة، لأن المشكلة الحقيقية تتمثل في اختلال الميزان التجاري، فبدون خطة عاجلة وحتمية، ترتكز على زيادة الإنتاج لا يبدو في الأفق أي مخرج من دوامة التضخم الحلزوني، وزيادة الإنتاج تستلزم دعم الصادر الذي هو المصدر الرئيسي للعملات الصعبة، مع ضرورة دعم الحكومة للسياسة التمويلية والنقدية وتوفير الضمانات.

وفي إطار البحث المضني للحكومة عن حلول أوصت لجنة اقتصادية من خبراء اقتصاديين بسن قوانين رادعة لما أسمته بالتخريب الاقتصادي تصل إلى الإعدام ومصادرة الأموال.. وطالبت كذلك بإيقاف استيراد الكماليات ولعب الأطفال وأدوات التجميل وبعض أنواع السيارات والفواكه بجميع أنواعها.. كما نوهت بضرورة العمل على رفع كل الرسوم المفروضة على الصادرات والجبايات في الطرق السريعة.

وأشارت اللجنة إلى أهمية محاربة الوجود الأجنبي غير المقنن وفرض عقوبات قوية تصل إلى مصادرة المنازل التي يأوي أصحابها الأجانب الذين دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية، وكذلك السجن والغرامة لكل صاحب عمل يسمح أو يساعد أجنبي على العمل بدون تصديق من السلطات، وكذلك تشديد العقوبة التي تصل إلي السجن لأكثر من عشر سنوات والطرد من الخدمة لكل نظام يساعد أو يقدم خدمات أو يحمي أي أجنبي دخل البلاد بطريقة غير مشروعة مع إعطاء الأجانب الذين دخلوا البلاد بطريقة غير مشروعة مهلة لمدة شهر للمغادرة بدون عقوبات وبعد ذلك تطبق عليهم عقوبات رادعة.

ومن توصيات تلك اللجنة زيادة الصادرات وتشديد الرقابة علي المصدرين الذين يهربون العملات الصعبة إلى خارج البلاد.. فضلا عن تشجيع المغتربين علي التحويلات عبر الجهاز المصرفي وعمل حوافز لكل مغترب يحول مبلغا محددا في العام لمدة خمسة سنوات بإعطائه قطعة أرض وإدخال سيارة بدون جمارك وكذلك إلزام كل مغترب بتحويل مبلغ ألف دولار سنويا على الأقل عبر الصرافات أو البنوك. كما لا يسمح بخروج أي مواطن بغرض السفر بأكثر من ثلاثة آلاف دولار.

بيد أن اللجنة أغفلت العديد من المسائل المهمة منها أن أصحاب الأصول المالية كالودائع طويلة الأجل بالبنوك؛ غالبا ما يحولون مدخراتهم إلى أصول عينية كالأراضي والذهب؛ خوفا من أن تتعرض للتآكل المستمر مع ارتفاع الأسعار، وانخفاض العملة المحلية أمام العملات الأخرى. ومما أغفلته اللجنة تعرّض الصناعة المحلية لمنافسة شديدة من الخارج، بسبب ارتفاع أسعار السلع المنتجة محليًا مقابل السلع المستوردة مما يقلل الطلب على المنتج المحلي. ونتيجة لزيادة الطلب على السلع المستوردة وانخفاض الطلب على السلع المحلية يزداد العجز في ميزان المدفوعات التجاري والذي تتطلب مواجهته إما باستنزاف احتياجات البلاد من الذهب والعملات الأجنبية، أو باللجوء إلى الاستدانة الخارجية، أو تصفية ما تملكه الدولة من أصول بالخارج أو حتى أملاك الدولة في الداخل كما حدث ضمن سياسة الخصخصة وما صاحبها من فساد كبير.