عالمية

الأمم المتحدة… مسلسل الفضائح


تتوالى فضائح الأمم المتحدة في عدد من البلدان، ليشكل عام 2016، الأسوأ نظراً لتعدد الفضائح والانتهاكات التي تم الكشف عنها، والتي غالباً لا يجد أي منها سوى تحقيقات داخلية باهتة تنتهي إلى الإقرار ضمناً بالخطأ أو علناً مع بضع جمل تحتوي كلمات اعتذار تتراكم، وتسجيل استقالات محدودة. وبينما تعد الانتهاكات الجنسية أبرز عناوين فضائح الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة، فإن قضايا أخرى طابعها سياسي تحضر أيضاً، خصوصاً في البلدان التي تشهد أزمات سياسية وإنسانية على غرار سورية. ويشكل ما كشفته صحيفة “ذا غارديان”، أمس الثلاثاء، عن أن منظمة الأمم المتحدة، عبر وكالاتها المتعددة العاملة في سورية، منحت عشرات ملايين الدولارات لأشخاص ومنظمات مرتبطين برئيس النظام السوري بشار الأسد، الفضيحة الأحدث التي تواجه المنظمة هذا العام.

وفقاً للتحقيق الاستقصائي الذي أعدته الصحيفة، وتضمن الاطلاع على مئات العقود التي أبرمتها منظمات الأمم المتحدة منذ 2011، بداية الثورة في سورية التي تشهد أسوأ أزمة إنسانية، فإن بعثة الأمم المتحدة كجزء من برنامج مساعداتها الإنسانية منحت شركات ورجال أعمال يخضعون لعقوبات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مبالغ طائلة تقدر بعشرات ملايين الدولارات. وأبرمت الأمم المتحدة عبر وكالاتها عقوداً مع 258 شركة سورية على الأقل. ووصلت المبالغ التي دفعتها لهذه الشركات في حدها الأقصى إلى 54 مليون دولار وفي حدها الأدنى إلى 30 ألف دولار. وتشير الصحيفة، بحسب التحقيق، إلى أن العديد من هذه الشركات لها صلات بالأسد أو أولئك القريبين منه. وفي السياق، يحضر اسم كل من أسماء الأسد، زوجة رئيس النظام السوري، ورامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام السوري.

تظهر الوثائق المنشورة أن منظمتين تابعتين للأمم المتحدة بنتا شراكة مع مؤسسة خيرية أنشأتها وتديرها أسماء الأسد، وتم إنفاق 8.5 ملايين دولار، على الرغم من أنّ الأخيرة تخضع لعقوبات أميركية وأوروبية.

تم إنفاق 8.5 ملايين دولار بالشراكة مع مؤسسة خيرية تديرها أسماء الأسد

أما “يونيسيف”، وبحسب الوثائق، فقد دفعت نحو 277 مليون دولار لجمعية البستان التي يملكها مخلوف. كما دفعت الأمم المتحدة 700 ألف دولار لشركة “سيرياتل” للهاتف النقال التي يديرها مخلوف المعروف بدوره في دعم النظام السوري، بما في ذلك تمويل المليشيات التي تقاتل إلى جانب القوات النظامية. بدورها، أنفقت منظمة الصحة العالمية أكثر من 5 ملايين دولار لدعم بنك الدم الوطني السوري، الذي تتحكم فيه وزارة الدفاع، على الرغم من وجود “مخاوف ملموسة” لدى المنظمة حول ما إذا كانت إمدادات الدم ستصل إلى الذين يحتاجونها أم أنها ستوجه إلى الجيش أولاً. لم تنكر الأمم المتحدة صحة ما ورد في التحقيق، بل على العكس من ذلك، قدمت مجموعة من التبريرات، أهمها أنها “لا تستطيع العمل سوى مع عدد محدود من الشركاء الذين يوافق عليهم الأسد وأنها تفعل كل ما في وسعها لضمان أن الأموال تنفق بشكل صحيح”. يقول متحدث باسم المنظمة، لم يحدد اسمه، إن “العمل في سورية، وفي وقت يدخل فيه الصراع عامه السادس، يجبر العاملين في المجال الإنساني على اتخاذ خيارات صعبة”. كما تدافع المنظمة عن نفسها بالقول إنّها غير ملزمة بعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وإنّها فقط تلتزم بالعقوبات الصادرة عنها.

إلا أن مسؤولاً آخر في المنظمة، عمل في سورية، لم يتردد بالقول للصحيفة إنه يوجد عدم ارتياح داخل بعض وكالات الأمم المتحدة بسبب تحكم حكومة النظام بجهود الإغاثة، قبل أن يصف موقف الأمم المتحدة بـ”المخيب للآمال” في مواجهة التحديات التي تفرض نفسها في سورية. كما أعادت الصحيفة التذكير بما قاله لها مسؤول آخر في بداية الحرب السورية إذ فال “فريق الأمم المتحدة في سورية، عرف منذ الأيام الأولى للصراع، أن الحكومة وقائمة الجمعيات المحلية المعتمدة من قبلها للشراكة مع الأمم المتحدة، لا يمكن اعتبارها تلائم المبادئ الإنسانية المتعلقة بالاستقلال والحياد والنزاهة”. لكن تمت تنحية هذا الاعتبار جانباً من قبل الأمم المتحدة لإرضاء مطلب قيادة حكومة النظام في ما يتعلق بالاستجابة الإنسانية، الأمر الذي مهد لتورط وكالات الأمم المتحدة مع مؤسسات مرتبطة بشكل وثيق مع حكومة النظام، بحسب الصحيفة. كما تعرب مصادر عن قلقها مما تصفه بـ “ثقافة الصمت” حيال الأعمال المحلية ومهمات بعثة الأمم المتحدة في دمشق.

وتأتي هذه الفضيحة لتضاف إلى قائمة الانتقادات التي تواجه الأمم المتحدة في سورية، خصوصاً الاتهامات التي تواجه مهمة المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا، ليس فقط بسبب المواقف التي يتبناها المبعوث الأممي الذي وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” سابقاً بأنه “دبلوماسي من الوزن الخفيف” بل أيضاً بسبب تسجيل ملاحظات عدة على أعضاء فريق عمله وافتقارهم للكفاءة نتيجة غلبة سمة المحسوبية عليهم.

واجه المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا برناردينو ليون اتهامات عدة بتضارب المصالح

الانتقادات لممثلي الأمم المتحدة وعدم التزامهم بالحياد لا تقتصر على دي ميستورا وفريقه. وفي السياق، تبرز مهمة المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا، برناردينو ليون، التي انتهت في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على وقع فضيحة تعاملت معها الأمم المتحدة بلا مبالاة. وبحسب ما كشفته صحيفة “ذا غارديان” البريطانية كان ليون يستغل الأشهر الأخيرة من مهمته الليبية للتفاوض مع دولة الإمارات بهدف تسلّم إدارة الأكاديمية الدبلوماسية فيها، فضلاً عن تواصله مع مسؤولين إماراتيين وتنسيقه الدائم مع السفير الإماراتي في ليبيا في الوقت الذي كان فيه الدور الإماراتي في ليبيا يشكل مادة للسجال السياسي، ولا سيما بعد التقارير الصحافية التي أشارت إلى أن القاهرة وأبوظبي تعاونتا وشنتا ضربات جوية ضد كتائب إسلامية في ليبيا.

الفضائح/الجرائم لا تتوقف عند هذا الحد. ما حدث في هايتي نموذج آخر لا يقل سوءاً. لم تجد الأمم المتحدة، أخيراً، مفراً من الإقرار بمسؤوليتها عن التسبب بانتشار وباء الكوليرا في هايتي في عام 2010. بعبارات منتقاة بدقة، قال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، في الثامن عشر من شهر أغسطس/آب الجاري، إنه “خلال العام الماضي أصبحت الأمم المتحدة مقتنعة بأنها في حاجة لفعل المزيد في ما يتعلق بتورطها في الانتشار المبدئي، ومعاناة هؤلاء الذين تضرروا من الكوليرا”. “هؤلاء” الذين تحدث عنهم حق هم عبارة عن قرابة 780 ألف شخص توفي منهم أكثر من 9100 شخص، بحسب الأرقام المنشورة على مركز أنباء الأمم المتحدة. وقد أصيبوا بعد تسرب مياه الصرف الصحي بقاعدة للأمم المتحدة تديرها قوات نيبالية في نهر قريب منها.

على الرغم من ذلك ترفض الأمم المتحدة دفع أي تعويضات للضحايا. وقد برر الأمين العام للمنظمة الدولية، بان كي مون، السبب بـ”الحصانة القانونية للأمم المتحدة”، قبل أن يتحدث عن مسؤولية أخلاقية للمنظمة في دعم الضحايا والبلد في التغلب على هذا الوباء.
أما في جنوب السودان، فقد أقرّت بعثة الأمم المتّحدة في جنوب السودان (يونميس) مطلع شهر أغسطس الجاري بوقوع 126 حالة اغتصاب لنساء في محيط مقرها. وكان الآلاف من الجنوبيين قد لجؤوا إلى مقر البعثة وانتشروا في محيطها بحثاً عن قليل من الأمان في أعقاب المعارك التي اندلعت بين القوات الحكومية والمتمردين في 2013. وقد أرفق هذا الإقرار بتسريبات عن تشكيل فريق للتحقيق في هذه الجرائم. وإن كانت قوات الأمم المتحدة قد تغاضت عن انتهاكات جنسية ترتكب تحت أنظارها في جنوب السودان، فإنها في المقابل كانت ضالعة مباشرة في هذه الجرائم.

إقرار بوجود 44 حالة تحرش واغتصاب ارتكبت من قبل جنود منضوين في قوات حفظ السلام الدولية منذ بداية عام 2016

في شهر مايو/أيار الماضي، أعلن متحدث آخر باسم الأمين العام للأمم المتحدة، يدعى ستيفان دوجاريك، عن وجود 44 حالة تحرش واغتصاب ارتكبت من قبل جنود منضوين قوات حفظ السلام الدولية منذ بداية عام 2016. وتعد هذه الجرائم امتداداً لأخرى مماثلة تمت على مدى الأعوام الماضية. ووفقاً لدوجاريك، سجلت 29 حالة في أفريقيا الوسطى، وسبع في الكونغو، فضلاً عن حالات مماثلة في مالي وجنوب السودان ومناطق أخرى. في أفريقيا الوسطى، التي تركزت فيها الجرائم بين عامي 2014 و2015 كانت طفلة تبلغ 12 عاماً من بين الضحايا. تقول الفتاة، في شهادتها التي وثقتها منظمة العفو الدولية، إنها “اختبأت داخل حمام خلال تفتيش منزل أسرتها في نحو الساعة 2 صباحا من يوم 2 أغسطس/آب 2015 من قبل جنود حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة، كانت تقودهم قوات شرطة درك رواندية وكاميرونية وينفذون عملية في العاصمة بانغي في حي “بي كا 5”. وتشير إلى أن “رجلاً كان يرتدي قبعة زرقاء وملابس قوات حفظ السلام الأممية أخذها ثم اغتصبها خلف شاحنة كانت متوقفة هناك”. وأضافت “عندما صِحْت، صفعني على وجهي بأقصى قوته ثم وضع يده على فمي”. وكان من نتائج هذه القضية تقديم مبعوث الأمين العام الخاص لجمهورية أفريقيا الوسطى، باباكار غاي، استقالته من منصبه بناء على طلب بان كي مون. أما عبارات الشجب والصدمة التي تحدث عنها الأمين العام الحالي للأمم المتحدة فرأت منظمة العفو في تقريرها أنها تشكل امتداداً لـ”كلمات قيلت قبل أكثر من عشر سنوات، حيث كان الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان أول من تعهَّد بالقضاء على آفة الانتهاكات الجنسية في الأمم المتحدة”، في إشارة واضحة إلى عجز الأمم المتحدة عن معالجة هذه الظاهرة.

الفضائح الجنسية لموظفي الأمم المتحدة لا تقتصر على الاغتصاب، إذ تم على مدى الأشهر الماضية تسليط الضوء مجدداً على ظاهرة “الجنس مقابل الغذاء” والتي كان من تداعياتها أيضاً ما بات يعرف بظاهرة “أطفال قوات حفظ السلام”. في تقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو/تموز الماضي، تم الاعتراف بتسجيل 480 حالة استغلال جنسي بين 2008 و2013، من قبل قوات حفظ السلام خصوصاً في هايتي وليبيريا. وأوضحت 231 امرأة في هايتي، استجوبن خلال عام 2015، أنهن اضطررن إلى القيام بهذه الخطوة. ووفقاً للتقرير، الذي نشرت مقتطفات منه وكالة “أسوشييتد برس”، فإن ثلث ضحايا الحالات من الأطفال. وفي مقابلة مع صحيفة “واشنطن بوست”، في فبراير/شباط 2016 تقول طفلة تبلغ14 عاماً، “في بعض الأحيان، عندما أكون بمفردي أفكر في قتل طفلي. إنه يذكرني به”. تروي الطفلة كيف أن الأمم المتحدة رفضت تسجيل ما تعرضت له على يدي جندي بوروندي يعمل ضمن قوات حفظ السلام على أنه اغتصاب ووثقت حالتها تحت بند “مقايضة جنسية” تم بموجبها مبادلة الجنس بالطعام أو المال. وتجمع تقارير عدة على أن الأمم المتحدة فشلت في التعامل مع التقارير التي تردها عن الانتهاكات، إن بسبب تكتمها على الانتهاكات أو بطئها في الاستجابة لها، فضلاً عن تحول الحصانة التي تتمتع بها القوات التابعة للأمم المتحدة إلى أداة للإفلات من العقاب.

من جانب آخر، تشكل قضايا الفساد جزءاً من منظومة عمل الأمم المتحدة، والتي كان أحدثها قد تورط فيها الرئيس السابق للجمعية العامة للأمم المتحدة خلال عامي 2013 و2014، جون آش، الذي توفي أواخر شهر يوليو/تموز الماضي. في شهر إبريل/ نيسان الماضي، نشرت وكالة “رويترز” تقريراً كشفت فيه عما وصف بأنه “أكبر أزمة فساد في الأمم المتحدة منذ فضيحة النفط مقابل الغذاء في عهد كوفي عنان”. وجاء التحقيق عقب اتهامات وجهها مكتب التحقيق الأميركي ضد سبعة أشخاص بينهم آش بتلقي رشى. واتهم الرئيس السابق للجمعية العامة للأمم المتحدة بتلقي قرابة مليون دولار ر كرشى من رجال أعمال صينيين، بينها تلقيه أكثر من 800 ألف دولار من رجل أعمال صيني لدعم مصالحه داخل الأمم المتحدة. كما ضمت قائمة المتورطين، كلا من نائب سفير الأمم المتحدة من جمهورية الدومينيكان، فرانسيس لورنزو. وقد تم وقفه عن العمل، في ما يبدو أنها من “أقصى” العقوبات التي يمكن أن تطاول موظفي الأمم المتحدة.

العربي الجديد