تحقيقات وتقارير

وزير الدولة بالخارجية: نحن أيضا ضحايا الهجرة المهولة.. الاتحاد الأوربي رصد “100” مليون يورو للمساعدة والسيطرة على الظاهرة.. وهذا مبلغ متواضع


** ينفتح السؤال دائما مع كل حادثة عابرة أو مؤسفة يتعرض لها المهاجرون عن أسباب الهجرة.. الشلالات البشرية تتدافع باتجاه السواحل والمطارات؛ تستغل السفن أو المراكب وحتى راجلة لمسافات طويلة ومرهقة لدرجة تزهق معها الأرواح.. في الحقيقة عادت قضية تجارة البشر أو تهريبهم تصنع لافتتها التاريخية، وربما تنبئ بما يمكن أن يشبه الظواهر العالمية التي تركت آثارها.. كنا نفتح الأسئلة على مصراعيها أمام وزير الدولة بالخارجية كمال إسماعيل، عن الهجرة وجنوب السودان وأمريكا وفي الأخير حول اجتماعات حقوق الإنسان المرتقبة، وكلها قضايا ذات صدى خارجي بل وصوت أيضا.. حديث الدبلوماسي إسماعيل بدا لي من وجهة ما يحمل تلك النكهة التحررية التي عرف بها مثقفو ونخب إفريقيا إبان ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ كان ينافح عن قضية الشعوب التي تتوق لأوضاع أفضل بخروجها نحو الشواطئ والأرصفة الأوروبية.. لم يكن مكترثا في الحقيقة بأدنى قدر لمخاوف تنتاب المراقبين بدنو أجل اجتماعات مجلس حقوق الإنسان.. بل العكس؛ يشي سيماه ومحياه بالاطمئنان ربما لكونه على اطلاع بالعمل الكثيف الذي اضطلعت به حكومته وأعدته ليوم كريهة.. لا يهمل محدثي الإدلاء بإفاداته حول قضايا تتصل بواشنطون البعيدة وجوبا القريبة.. يلزمني الاستدراك أن توصيف القرب والبعد في السياق عاليه ربما لا تكون له علاقة بالقلب، وإنما هي الجغرافيا وأقدارها فحسب.
* يتصاعد قلق وخوف الأوروبيين إزاء موضوعة تجارة البشر لدرجة باتت معها قضيتهم الأولى، وملفهم الأنشط في الدول الإفريقية.. لماذا تعزوه؟
– أنا أولا لدي تحفظ على تعبير “تجارة البشر”، فليس هنالك شخص يبيع ويشتري في البشر، ولكن هنالك تهريب بشر، وأشخاص يساعدون على هجرتهم. وأرى أن كلمة “تهريب” استخدمت حتى تعطيها معنى سالبا، وأرجو ألا ننجر لما وراء الكلمات.. وهي هجرة غير قانونية من دولة لأخرى، وهي قضية مهمة تهم كثيرا من البلدان، ويجب العمل على حلها بصورة جذرية، وفي مؤتمر سابق في كرواتيا حول التنمية ذكرت لهم أنه ليست القضية أن بشرا يهجرون بلدانا أو أخرى، ولكن القضية أن نسأل أنفسنا: لماذا يهاجر هؤلاء البشر من بلدانهم إلى دول أخرى، وواضح أنه ليست ثمة أسباب سياسية ودينية محددة ولكن هنالك أسباب اقتصادية ضاغطة، وقلت في ذلك المؤتمر يجب أن تحل القضية الاقتصادية والتنمية في تلك الدول بصورة جادة حتى يمكن لهؤلاء أن يستقروا في بلدانهم وإلا فسوف لن تنفع الحراسات والفواصل على الحدود، فالبشر أكثر المخلوقات التي يمكنها أن تتحاشى المسافات والحدود وبالتالي لا بد لنا أن نواجه أصل القضية وأسبابها الحقيقية بصورة جذرية وخلق تنمية وفرص عمل وإنتاجا لهؤلاء البشر في بلدانهم، وأظن أن الدول الصناعية لها المقدرة المالية والفنية لتفعل ذلك، وإذا فكروا بصورة إيجابية يمكن حل هذه القضية، ولكن أي حلول أمنية وتشديد يستطيع البشر تجاوزها.
* هنالك من يتحدث أن أمواج الهجرات تحاكي ذات الجيوش الاستعمارية التي دكت حصون إفريقيا والآن تعود جيوش من المعدمين والمحرومين؟
– حقيقة، ذكرت للأوروبيين إذا ما ظلوا يأخذون المواد الخام من الدول النامية ليصنعوها وويصدِّرونها لنا بأسعار أعلى سيظل هؤلاء يتابعون موادهم الخام.. والوضع الأمثل أن تصنع تلك المواد في بلدان المهاجرين حتى يستفيد الطرفان، ولا يمكن أن تظل وتسود المعادلة القديمة مواد خام بأسعار زهيدة مقابل مواد مصنعة بأسعار باهظة، وذلك واضح أنه على حساب الدول النامية وعليهم أن يغيروا طريقة تفكيرهم تلك.
* هل يمكن أن يجنح بنا الخيال في المقابل ونتحدث عن صورة استعمار إفريقي لأوروبا؟
– لا .. لا يمكن أن نتحدث عن استعمار إفريقي، ولكن نتحدث عن هجرات بشرية كبيرة يمكن أن تؤثر على الوضع الديموغرافي في مختلف البلدان نتيجة ضغوط اقتصادية.
* كنت أود أيضا أن أتناول التأثيرات في الوضع الديموغرافي.. لندلف إلى الحديث عنها ما دامت مسارات الحديث قد أودت بنا إلى هنا.. هل يمكن للظاهرة أن تؤثر إلى هذا المدى؟
– ليس بعد، ولكن حتى سكان الدول الأوربية هاجروا لقارات أخرى سواء كان أستراليا وأمريكا، أو أمريكا اللاتينية نتيجة ظروف أيضا أحدثت متغيرات، والأصل في البشر الهجرة وهي قضية متفق عليها، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نحجز الناس في أماكن جغرافية طول الزمن والعهد، وإذا ما جاءنا الأوروبيون في القرن الماضي بأعداد كبيرة لإفريقيا وعاشوا فيها وانتجوا وكان هذا أمرا مقبولا بالنسبة لنا، فلماذا الآن عندما يذهب الأفارقة إلى أوربا تصير هنالك قضية، والبشر يتحركون بمقتضيات الظروف التي يتعرضون لها وعلينا أن نواجه الظاهرة بصورة أوسع فهما حتى يمكننا أن نعالج جذور القضية.
* ثمة من يذهب في مدارج التحليل إلى القول بأن المهاجرين في قرارة أنفسهم هجرتهم فقط للاستمتاع بالموارد المنهوبة والمسروقة؟
– هذا تقييم يترك للتاريخ في من استغل من وكيف ومتى؟ لكن الواقع الآن، هناك حدود سياسية وقواعد ونظم يجب أن يحترمها الآخرون.
* أليست هي دافعا لهم؟
– الدافع في تقديري هو العوز الشديد وهو القضية الأصعب التي يواجهها الأفارقة.
* أيضا تحدث الأوروبيين عن أن الهجرة تؤثر على ديانة القارة العجوز؟
– المهاجرون طبعا من مختلف الديانات، وهنالك مسيحيون هل سيؤثرون على الدين في أوربا؟ وهنالك لا دينيون.. بالأحرى ليست القضية ديانة المهاجر بل أسبابها الحقيقية، أما عن التأثير فقد يحدث في الجوانب الثقافية والسياسية، وهذا طبيعي جدا، وعموما فإن أعداد المهاجرين ليست كبيرة بما يمكنها أن تؤثر على البنية الثقافية لتلك الدول.
* على مستوى بلادنا بدأت تظهر أعداد ضحايا بصورة كبيرة وربما غير متخيلة؟
– بالضبط، وهذا ما نعاني منه باعتبارنا دولة معبر، وعبر خلال حدودنا الآلاف إن لم يكن الملايين وبالتالي ذلك يؤثر على اقتصادنا ووضعنا الثقافي والاجتماعي ونحن أيضا ضحايا هذه الهجرة المهولة.
* أنتم كوزارة خارجية كنتم جلستم مع دول الاتحاد الأوروبي كل على حدة، هل لديهم تصور ومقدرات لكبح جماح الهجرة غير الشرعية؟
– تمت مناقشة قضية الهجرة للدول الأوروبية في مختلف المؤتمرات والاجتماعات المشتركة مع الدول الأوروبية والإفريقية وبالتالي كان دائما الحديث عن كيفية إيجاد حلول جذرية للهجرة، ولا سيما في المجال الاقتصادي وخلق فرص عمل، وإنتاج وكسب اقتصادي للمهاجرين حتى يظلوا في بلدانهم بدلا من أن يهاجروا.
* بالتفصيل، لو أمكن؛ كيف يمكن توفير فرص العمل في بلدان المهاجرين؟
– فرص العمل والمشاريع التي أقصدها يقوم بوضعها وترتيبها الفنيون على مختلف المستويات، لكن لم نتفق مع الأوروبيين على أرقام كبيرة يمكن أن تساعد على حل المشكلة، الاتحاد الأوربي رصد مبلغ (100) مليون يورو للمساعدة في بعض المشروعات التي تخص المهاجرين في السودان، وكيفية السيطرة على الظاهرة، وهذا مبلغ متواضع لا يمكن أن يحل قضية تمثل مئات الآلاف من البشر.
* في صحف الأمس كان البعض ينقل عن قائد قوات الدعم السريع اللواء حميدتي مطالبته للأوروبيين بفدية، نظير ما تواجهه القوات السودانية لمنع الهجرة لأوربا؟
– لا .. لا يمكن أن تكون فدية، لكن قوات الدعم السريع تبذل جهودا كبيرة جدا وجبارة في محاولة الحد من الهجرة، وهذا مكلف بشريا وماديا ونحن بلد محدود الإمكانيات، والذين تعنيهم هذه الظاهرة إذا لم يساهموا بصورة جادة لن نستطيع المحافظة على الاستعداد لفترة طويلة جدا.
* ألم تتحدث وزارة الخارجية مع دول تعتبر منابع للهجرة البشرية، ومحاولة إيجاد حلول؟
– في الحقيقة ولنكن واضحين، نحن لم ندع أحدا لزيارة السودان والعبور منه، هذه الظاهرة تأتي بدون استشارة السودان أو إبلاغه؛ لا من المهاجرين أو دولهم، وهي هجرة بشرية عشوائية تحدث نتيجة الضغوط الاقتصادية، وبالتالي حتى بلدان الأصل ليست لها مقدرة في أن تحجر أو تمنع مواطنيها من الهجرة.
* ما هي أكثر الدول التي يستقبل منها السودان أعداد المهاجرين؟
– السودان يستقبل من كل الدول المحيطة به؛ من إثيوبيا وإرتريا وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان، وكل دول الجوار ترسل مهاجرين عابرين أو حتى مقيمين، لذلك فالاقتصاد السوداني يعاني منها كثيرا.

اليوم التالي