تحقيقات وتقارير

الوجود الأجنبي.. التنظيم نعم والتجريم لا


التحذير من الوجود الأجنبي على الأراضي السودانية لا يتوقف، يلعكه الأهالي في أحاديثهم اليومية، ويناقشه الساسة والتنفيذيون في اجتماعتهم الدورية، وينثره الأئمة والدعاة في خطبهم ووعظهم، ويجد حظاً وافراً لمن يريد البحث والدراسات العلا.

فهل صحيح أننا وصلنا مرحلة نخشى فيها على مجتمعاتنا المحلية أنماطاً سلوكية جديدة، وجرائم صادمة ومستحدثة، وتغييرات بنيوية على الهياكل السكانية يقال إنها ستسفر مستقبلاً عن تحولات في الحكم والسلطة بوصول ممثلين لجاليات كبيرة تكاد تسيطر على أحياء سكانية متى لاحت لها فرصة الانتخاب.

تجديد المطالبة
أمس الأول طالب مجلس الوزراء بسن قوانين تضبط الوجود الأجنبي، وتشدد وتغلظ في عمليات تسجيل الأجانب، ومن ثم سيتحول إيواء الأجانب غير المسجلين تهمة يعاقب عليها القانون. ولطالما وصل الأمر إلى بهو مجلس الوزراء فإنه يتوقع وصول مشروع قانون يمرر إلى البرلمان بغرض ضبط الأجانب بمشاركة الجهات ذات الصلة من داخلية وخارجية وعمل ورعاية اجتماعية .. الخ.

ولا تعد هذه الدعوة العالية الرفيعة الأولى من نوعها، فقد حذّر د. الحاج آدم على أيام توليه منصب نائب الرئيس من الوجود الأجنبي، وتوقع إنه ما لم تشرع وتسن القوانين، فسيحل محله ذات يوم أشخاص من ذوي أصول غير سودانية، ليتحكموا في مصائر السودانيين.

خطوات تنظيم
لا شك أن عمليات تنظيم الوجود الأجنبي من المسائل البدهية في كل دول العالم، وباختلاف القوانين يتم تصنيف الدول من متشددة في تعاملاتها مع الأجانب وصولاً إلى تلك التي تفتح ذراعيها وتقول لهم هيت لكم. بل أن بعضها يستقبل آلاف المهاجرين ضمن برامج سنوية فيما يعرف اختصاراً بـبرنامج (لوتري).

وينتشر ألوف السودانة في أرجاء البسيطة كلها، ممثلين لنا، نحتفي بإنجازاتهم، ونثور لانكساراتهم، ونتباكى على لجوء معظمهم اليوم إلى وسطاء تجاريين في تحويلاتهم المالية ما أصاب دورتنا الاقتصادية بعجز قوامه ما يربو على ثلاثة مليارات دولار.

ماضٍ مشرق
يجوز القول إن السودانيين وحتى وقت قريب كان يعرف عنهم الاحتفاء بالأجنبي، وحسن وفادة الغريب، والحن على اللاجئ، وتقبل من تنقطع بهم السبل، وغوث المنتمين لشعوب مستضعفة، حتى إن الشاعر السوداني إسماعيل حسن في قصيدة ذائعة الصيت ومتوارثة الكلمات يقول: (بلادي أنا بتكرم الضيف .. وحتى الطير يجيها جيعان)، ثم وفي ذات القصيدة يصف قومه بأنهم (يبدوا الغير على ذاتهم).

لذا حين تندلع الحرب في دولة جنوب السودان نقول إخواننا ونسخط ممن يريد الزج بهم ضمن معادلات السياسة. وحين تضيق الأرض بما رحبت على السوريين فإننا نرحب بوجودهم ونقول لهم لا يأخذنكم البحر وتعالوا نقسم معكم الحلوة و(اليابسة)، كما يحتشد ملفنا بدعم حركات التحرر، فقد منحنا الزعيم والرمز الأفريقي نيلسون مانديلا جوازنا يجوز به نواحي قضيته العادلة، حتى إننا وهبناه عن طيب خير لأجانب أندية القمة الكروية الذين نرجو بهم معانقة البطولات القارية، ومن على ثرى ترابنا تحرك الأحباش لتحرير بلادهم من قبضة الدكتاتورية، ومن ثم فضل بعضهم الإقامة بين ظهرانينا حتى لا تكاد تفرقهم عنا ما فتح الباب على مصراعيه لآخرين من دونهم يملأون حياتنا بالبهجة والموسيقى وفنجاين البن.

مخاوف
هذه النظرة الحانية في طريقها إلى أن تتبدل، وقد لا يكون في المقدور استمرار السودان ملتجأ لكثير من الشعوب الهاربة من الويلات والباحثة عن الفرص وأيضاً لن يكون مبلوعاً بالمرة تحول العابرين من العبور إلى الإقامة الدائمة.

وبالفعل هناك أنماط حياة غريبة بدأت تتسرب لمجتمعنا، فمثلاً بات من الاعتيادي أن تلجأ الأسر كثيراً ومن باب المباهاة إلى توظيف عاملات منزليات يؤول لهن أمر تربية الصغار وفقاً لعاداتهن الأجنبية، وهناك مهن منتشرة ولا نعرف لها جدوى، وهناك أمراض فاتكة تصل مع الأجانب وتنسل إلينا، وهناك جرائم مستحدثة أطرافها أجانب تصل إلى القتل ولا تنتهي بالتزوير والدعارة والمخدرات الفاتكة حد أن سمعت باحثاً اجتماعياً يقول بحسرة (يا حليل البنقو).

غير أنه ومع أهمية ما سقناه عاليه، نجد أسباب تبدل النظرة للأجانب، اقتصادية في الأساس، فنحن نتداول بأنهم يأخذون نقدنا الأجنبي لما وراء الحدود، ويكفينا أن نؤشر إلى كون تحويلات المتسولين الأجانب للخارج تصل وحدها إلى ملايين الدولارات سنوياً.

كذلك فالأجانب – حسب ما يرى كثيرون- يضغطون على اقتصادنا المتداعي بالطلب العالي على الخدمات تأسياً بالمواطنين، وهم وراء تفشي العطالة بسبب إغراقهم لسوق العمل وخلقهم عوامل ملهاة كثيرة للشباب، كما أنهم السبب المباشر لارتفاع أسعار العقارات، وفوق ذلك فإنهم جلبوا معهم أنماطاً غرائبية للاستهلاك في وطن نرجوه بأن يكون منتجاً.

خيرات
فقط علينا ألا ننجرف وننساق وراء التهم، ونرى في الوجود الأجنبي فقط شراً مستطيراً. فما يدفع الشباب السوداني ليهاجر إلى الخليج مثلاً هو ذاته ما يدفع آخرين ليتسللوا لواذاً إلينا بحثاً عن أحلامهم وذواتهم.

عليه نسأل هل من المعقولية في شيء أن نتجرد من إنسانيتنا ونطالب بإبعاد اللاجئين الواصلين إلينا في ذات الوقت الذي نندد فيه بأحكام مغاليق الغرب في وجوه الفارين من ويلات الحروب العربية؟ وهل سيكون في مقدورنا ذم السلوكيات الذميمة الممارسة ضد أبناء جلدتنا في الخارج والتجاوز عمن يفعل ذلك بيننا وفينا؟ عموماً نخشى عليكم أن تكونوا أسرى للتناقض.

التوازن مطلوب
حسناً؛ فالأمر يتطلب معادلة تراعي الإنسانية وتنفي الإفراط ولا تقبل كذلك التفريط. عن ذلك يقول الباحث الاجتماعي حسن بخيت إن عمليات ضبط الوجود الأجنبي تتطلب سجلاً تفصيلياً بأعداد وأحوال الأجانب، وظروفهم الاقتصادية والصحية، وصحيفتهم الجنائية، بجانب معرفة تامة بمقار سكنهم، والأهم مدد إقامتهم في الوثائق الرسمية ومراعاة التجديد لهم وفق اشتراطات صارمة.

ويواصل بخيت أقواله لـ(الصيحة) بوجود حاجة ماسة لمسح دقيق لسوق العمل السودانية وإتاحة الفرصة للأجانب في شغر الأعمال التي لا تجد كادراً وطنياً، والتي تحتاج إلى تدريب ونقل خبرات.

مطالباً شأنه في ذلك شأن كثيرين بإبعاد المخالفين لشروط الإقامة بصورة فورية، وبتفعيل قوانين تبادل المجرمين مع الدول التي تملك عندنا جاليات كبيرة، وحين يتعلق الأمر بالاشتراطات الصحية يحذر من إدخال أصحاب الأمراض الخطرة نحو الإيدز وفايروس الكبد الوبائي هكذا ضربة لازب.

وفي الصدد ذاته، يؤيد الباحث الاجتماعي توقيع العقوبات الرادعة بحق تجار البشر، والسماسرة، ومزوري الأوراق الثبوتية، وتوسع في ذلك ليشمل معهم المواطنين المتكاسلين عن استخراج الأوراق الثبوتية.

حتى لا ننسى
عليه، وفي غمرة حماستنا بإلقاء الحمم في أثواب الأجانب، علينا ألا ننسى تقوية مجتمعنا الذي تظهره أقاصيصنا هشاً سهل الاختراق وعاجزاً عن مقاومة الثقافات الوافدة، ونتذكر كيف نريد للعالم أن يعامل أبناءنا عنده، هل نريد لهم أن يكونوا محتقرين أو بعض مجرمين؟

لا أظن ذلك، ولا أظنكم تريدون سوى مصفوفة تحول دون مخاوفكم وتجعل بلادكم (تكرم الضيف وحتى الطير يجيها جيعان).

الخرطوم: مقداد خالد
صحيفة الصيحة