منوعات

عثمان حسين.. هل تصدق تنتهي قصتنا.. يا أجمل حقيقة؟؟


“طبقات المغنّين ” صفة أطلقها د.النور حمد الترابي على كتاب “من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان” لمؤلفه معاوية حسن يس.. أو “أهل المَغْنى ” كما يسميهم الأخوة في شمال الوادي ، وهو وصفٌ يستحقه هذا السِّفر العظيم الذي تناول حياة عمالقة الغناء في السودان منذ بداياتهم الأولى ومعاناتهم في الحياة بتقلباتها المختلفة.. وهذا الكتاب الذي يجيء على نحو (699) صفحة سيكون مرجعا عظيما في المستقبل، وربما الآن ، للباحثين في مجالات الموسيقى والغناء وتطورها، ولعشاق الغناء السوداني عموما.. وربما يكون منفذا لتراثنا الغنائي نحو العالمية ، وهذا الجزء من الكتاب الذي جزّأه صاحبه إلى ثلاثة أجزاء من إصدارات مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي ، أردنا في المساحات القادمة أن نسلط الضوء على بعض العمالقة الذين ذكرهم المؤلف في هذا الجزء الثالث من الكتاب.. وهو كتاب جديرٌ بالاقتناء..

وُلد عثمان حسين محمد التوم في مقاشي، مركز مروي في عام 1927 . قدم إلى الخرطوم مع والده ولم يتعدّ الرابعة من عمره، وكان والده يتطلع إلى أن يلتحق ابنه بمعهد أمدرمان العلمي، لكنه لسبب أو لآخر لم ينل من التعليم إلا نصيبا متواضعا، إذ تم إلحاقه بخلوة الفكي محمد أحمد في ديم الزبير، ثم أُلحق بمدرسة ديم التعايشة الشرقية. غير أنه قطع دراسته عندما ضاق ذرعا بصعوبة مادة الرياضيات. فنصح ناظر المدرسة والده بأن يبحث له عن مهنة يتعلمها.

عثمان حسين والأناقة
عمل عثمان حسين (صبي ترزي) مع الأسطى محمد صالح زهري باشا، ومكث معه ست سنوات، أهلته لأن يفتح محله التجاري الخاص به، متخصصا في خياطة الثياب النسائية، وأثناء فترة عمله مع زهري باشا كان هناك مقهى بالقرب منهم يجذب زبائنه بالأغاني المسجلة على الاسطوانات، فتفتحت مسامعه على الغناء والأصوات التي كانت تهيمن على الساحة الغنائية في ذلك الوقت، وكم من مرة انتهز فرصة إرساله إلى المقهى لإحضار بعض الطلبات فيمكث فترة من الوقت يستمع لأغاني عبدالله الماحي والأمين برهان، وكم من مرة ينهال عليه معلمه بالعصا ضربا.. ويحكي عثمان حسين فيما بعد إن آثار الضرب ما تزال موجودة على ظهره” كذلك أفاد عثمان حسين من حضور الأذكار الصوفية في زاوية الشيخ عبد الجبار، مما ملأ مسامعه بأنغام متنوعة، وألحان دينية شجية. وكل ذلك كان في حي السجانة الذي أنجب خيرة المبدعين وعلى رأسهم المطرب عبد الحميد يوسف، والملحن خليل أحمد، وعازف الكمان عبد الفتاح الله جابو وغيرهم. كان عثمان حسين شديد الحساسية تجاه كل شيء..شخصه وفنه وأناقته.

عثمان حسين الظاهرة
جاء في الكتاب إن أحد الأدباء السودانيين الذين تربطهم صلة صداقة بعثمان حسين منذ العام 1947م، قال للمؤلف إن ظهور عثمان حسين كمطرب كان حدثا غير عادي؛ لأن ذلك تم إبان ذروة شهرة حسن عطية. وذكر السيد طاهر حمدنا الله للمؤلف أن عثمان كان عازفا على العود لصديقه المطرب المعروف عبد الحميد يوسف ، المولود في عام 1917م وكان مقاولا ونجارا وبنّاء.
ثم يقول المؤلف: يبدو أن عثمان حسين كره الجلسات الخاصة التي كانت الظروف تضطره لحضورها مع ابن حيّه عبدالحميد يوسف، لأنه كان رب أسرة مخلصا لبيته، ورب مهنة يحترم عمله والتزاماته، وموسيقارا يقدس فنه، لكل ذلك قرر أن يستقل فنيا. ولم يكن هنالك بد من تلمس خطى الآخرين الذين كانوا قلة ،وأشهرهم وأبرزهم الفنان حسن عطية الذي كان تأثر عثمان حسين به واضحا للغاية ، خصوصا عندما قام بتلحين أولى أغنياته (حارِم وصلي مالك) من كلمات محمد بشير عتيق. فقد انتهج ذات الأسلوب الذي يستخدمه حسن عطية، وهذا ما أقرّ به عثمان حسين نفسه في ذات لقاء إذاعي. هذه كانت البداية التي عرف بها الجمهور السوداني مطربا جديدا، فعدوه ظاهرة غير عادية لخفة ورشاقة ألحانه، وانتقائه لكلمات غنائية حسنة تتناسب ومقاييس العشق والجمال أيامئذٍ.

والإذاعة تفرد صدرها لعثمان حسين
تم اختيار صوت المطرب الناشئ أمام لجنة تخصصت في الاستماع إلى الأصوات الجديدة، ضمت عمالقة في تخصصاتهم الأكاديمية، منهم الدكتور سعد الدين فوزي أستاذ الاقتصاد في كلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم لاحقا) ومحمد عامر بشير فوراوي ، الصحافي والمترجم وكاتب مجلس النواب الذي تولى في فترة لاحقة منصب وكيل وزارة الاستعلامات والعمل (الإعلام) ، ومراقب الإذاعة متولي عيد، وطه زكي. أُجيز صوته خلال أدائه لأغنية عبدالحميد يوسف (أذكريني يا حمامة). قرر مسؤولا الإذاعة متولي عيد، وحسين طه زكي تخصيص فرصة لظهور عثمان حسين من خلال برنامج “ما يطلبه المستمعون” الذي كان يقدم على الهواء مباشرة من العاشرة حتى الحادية عشرة من صباح الجمعة. وكان القصد أن يتاح للمستمعين تقييم الصوت الجديد بأنفسهم، قدم عثمان حسين في تلك الفرصة أغنيته الوحيدة (حارم وصلي مالك)، فقوبلت بإعجاب شديد، وانهالت الرسائل التي تطلب بمعاودة الاستماع إليها. وكانت تلك المشاركة فرصة للقاء عثمان برائد الغناء السوداني الحاج محمد أحمد سرور. وتعاون معه عتيق ، بحكم صداقته الحميمة مع شقيقه طه حسين، فزوده بعدد من الأغنيات.

كيف لا أعشق جمالك؟
في تلك الفترة الباكرة من مسيرته الفنية قدم أغنية للشاعر علي محمود التنقاري (كيف لا أعشق جمالك) التي تمثل امتدادا لمدرسة قصائد “حقيبة الفن”.
كيف لا أعشق جمالك
ما رأت عيناي مثالك
فيك أجمل شيْ خصالك
وأنت بدري
وأصعب الغايات منالك
ولو رنيت ترسم نبالك
قلبي لاعب بيهو مالك؟
وقدم للتنقاري أغنية أخرى عنوانها “أنا بعشق أمدرمان” لكن للأسف لا يوجد لها تسجيل.

أربعة شعراء رسموا مسار عثمان حسين..!!
ذكر المؤلف إن هناك أربعة شعراء رئيسيين في مسار عثمان حسين الذي يقوم بابتكار الحان القصائد التي تهدى إليه، ويمثل كل منهم مرحلة في مساره الفني الغنائي والموسيقي، وإن كان هنالك شعراء آخرون غنى عثمان من نظمهم قصائد عذبة قربته إلى قلوب حسناوات وصبيان تلك الأيام. أما الشعراء الأربعة الذين ارتبطت أسماؤهم بعثمان حسين فهم:

الشاعر قرشي محمد حسن ، ويأتي في مقدمة الشعراء الأربعة، وأكثرهم تأثيرا فيه، فوجد أبوعفان، كما يحلو لعشاقه تسميته ، في قصائد قرشي ضالته لتفريغ الشحنة التأليفية الإبداعية. وكانت قصائد ” الفراش الحائر”، و”اللقاء الأول”، و”خمرة العشاق” أولى الأعمال الكبيرة التي لفتت المستمعين إلى درر عثمان . وسجلت “الفراش الحائر” حضورا استمر طوال حقبتي خمسينات وستينات القرن الماضي وكانت شهادة لقدرة عثمان على التأليف الموسيقي.
الشاعر الثاني في مسيرة عثمان حسين هو حسين محمد سعيد بازرعة، وكان حلقة الوصل بين أبوعفان وبازرعة هو الشاعر قرشي محمد حسن، الشاعر الأول في مسيرة الشاعر. كان بازرعة موهوبا منذ صغره. تلقى دراسته الثانوية بمدرسة وادي سيدنا القريبة من أمدرمان وكان يكثر التردد الى قهوة جورج مشرقي التى كانت أشهر منتدي للأدباء فى أمدرمان ومن أشهر مرتاديها الشعراء الغنائيون قرشي محمد حسن وعبد الله النجيب وإسماعيل خور شيد وهنا تعرف إلى قرشي محمد حسن الذي كان يعمل صحافيا فى صحيفة “الأمة” ، ومجلة “هنا أمدرمان” ، وكان قرشي حريصا على الجمع بين عثمان وبازرعة لأن عثمان عثر على قصيدة “القبلة السكرى” منشورة على صفحات مجلة “هنا أمدرمان” إثر فوزها فى مسابقة شعرية فاستحسنها ، وعقد العزم على تلحينها فكانت طويلة لا تصلح للتلحين لذلك بحث عن الشاعر الذي نظمها ليقوم باختصارها ..كان بازرعة معجبا برواد ما يسمى بمدرسة الشعر المتحرر، وخلال السنوات التي ربط فيها الفن والإخاء بين بازرعة وعثمان ظهرت أعمال مطربنا الكبير العملاقة منها .لا وحبك ،أنا والنجم والمساء ، شجن ، القبلة السكرى، الوكر المهجور، ناداني غرامك :

يا سر حطامي
ياكأس مدامي
وعمق هيامي
مأساتي فى دنياي هواك
وهواي فى دنياك شظايا
ودعت ليالى وأمسي
وأطفأت أماني وشمسي
وبقيت فى أيامي رواية
ناداني غرامك ناداني
وقد تبدت موهبة عثمان حسين فى التلحين والأداء ففى نصف ساعة أنجز لحن أغنيته البديعة شجن .
أما الشاعر الثالث فهو المذيع السفير صلاح احمد محمد صالح الذي كان يصطحب عثمان لدور السينما لحضور الأفلام المصرية، وكان يحض عثمان على الابتكار، ومحاولة الارتقاء بالأغنية السودانية. فجاءت الأغنية الخالدة “مات الهوى”، “نابك إيه في هواه”، “ليالي الغرام”، “إن تريدي يا ليالي”.
الشاعر الذي يجيء في المرتبة الرابعة هو الشاعر إسماعيل حسن وهو غني عن التعريف، فقدما عددا من الأغنيات منها: “عارفنو حبيبي”، “ألمتني”، “حبيبي جفا”.

كذلك من الشعراء المؤثرين في حياة أبي عفان الشاعر السر دوليب، الذي قدم له الأغنية التي تعتبر نموذجا في التسامح العاطفي وهي أغنية “مسامحك يا حبيبي” عام 1958م وغيرها من الأغنيات.. وكذلك الشاعر عوض أحمد خليفة ، ومن منا لم تأسره أغنية “ربيع الدنيا” .1968م، وغيرها من الأغنيات..
*الحديث عن عثمان حسين يحتاج إلى فضاءات واسعة، فهي مسيرة يجب أن تدرس في الجامعات. الكتاب غطى جزئية كبيرة من حياته.

عرض: نصرالدين عبدالقادر
صحيفة التيار