منوعات

الإرهاب.. معضلات التعريف والمواجهة (5)


ظاهرة ما يسمى بالإرهاب هي ظاهرة فوضى فكرية تتمظهر في فوضى ذات أبعاد إجتماعية وسياسية وأمنية خطيرة، باتت دول عريقة تنهار بآثارها وتفكك مجتمعات كانت بالأمس آمنة ومستقرة، وتكاد منطقة الشرق الأوسط بأثرها يعاد تشكيلها جغرافياً وديموغرافياً بالتحولات العظمى التي تنشئها هذه الزلزلة وتوابعها في المنطقة . بيد أن القليل من الجهد هو المبذول لفهم الظاهرة في أبعادها الفكرية والنفسية لتدبير مواجهة شاملة تبدأ بالإحتواء ولا تنتهي بالملاحقات الأمنية والعسكرية بل بالحصانة الفكرية ضد كل فكرة متفجرة.

المناجزة الفكرية للإرهاب

يكاد الجميع يدرك ويقرر أن الحرب على الإرهاب يجب أن لا تقتصر على المواجهة العسكرية الأمنية . وقد إنتظمت قمة لمكافحة الإرهاب دعا لها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في واشنطن شهدتها سبعون دولة وكان التركيز فيها على مواجهة الإرهاب في الشبكة الدولية والإعلام . كذلك فإن الجهود التي تقودها المملكة العربية السعودية في إطار التحالف الإسلامي ضد الإرهاب قد قررت إقامة مؤسسة فكرية للحرب على الإرهاب. لكن الجميع يقر أنه ومنذ أن أعلنت الولايات المتحدة حربها على ما تسميه الإرهاب أثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011م فإن الفكر التكفيري المستقطب لآلاف الشباب من شتى أنحاء العالم بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها قد توسع توسعاً عريضاً. وأن حربي أمريكا في أفغانستان والعراق كانتا اثنتين من أسباب تحفيز إنتشار الفكر التكفيري وتوسع ثقافة الكراهية فى العالم بأسره. فلئن كان الشباب المسلم الحانق قد دفعه الغضب واليأس تلقاء مزيد من التجاوب مع الخطاب التكفيري ، فإن ثقافة التحيز ضد المسلمين في الغرب وبخاصة في أوساط الإعلام والسياسة قد توسعت هي الأخرى . وتضاعفت جرائم الكراهية ضد المسلمين أضعافاً مضاعفة . ويدرك العقلاء جميعا إلى أين ستقود ثقافة وخطاب الكراهية العالم بأسره. لذلك فالحملة الفكرية للتعامل مع ظواهر الإرهاب وتوابعها يجب أن تشتمل على جهود منسقة شاملة تنظم تنتظم كل العالم يتوجه بعضها للشباب المسلم المتأثر بالتأويل الخاطيء للنصوص الإسلامية وبالصورة الشائهة للآخر . وكذلك يجب أن تتوجه إلى أولئك المتأثرين بثقافة الكراهية للإسلام والمسلمين . فإن أقوالهم وأعمالهم تصب الوقود على الظاهرة بدلاً من أن تعين على التعامل الرشيد معها . ولا شك أن محتوى خطاب الجماعات الغالبة الضيقة يُعطي صدقية عندما تمكنه الإشارة إلى توسع ظاهرة الإسلاموفوبيا وإنتشار جرائم الكراهية ضد المسلمين في المجتمعات الغربية.
بيد أن الاجماع حول ضرورة الحرب ضد الغلو العنيف لم تثمر إلا النذر القليل. ذلك أنها لا تهتدي برؤية موحدة شاملة للظاهرة، بل لا تتفق حتى على تعريف ما يسميه الغرب الإرهاب ونؤثر تسميته (الغلو العنيف) ولا تقارب أبحاثها الجذور الفكرية والمحاضن المذهبية لأفكار الغلو العنيف . وقد قادني الإطلاع الواسع على هذه الجهود الفكرية إلى خلاصة هي – أن جميع هذه الجهود لن تنجح في إقناع قطاعات واسعة من الشباب – لأنها لا تبدو مؤهلة لكسب ثقته من ناحيتي الموثوقية العلمية والأمانة الأخلاقية العلمية. وقد إنهمكت بعض الدوائر السياسية ودوائر الجماعات الدينية بتبادل الإتهامات كلً يرمي الآخر بأنه منبع أصيل للفكر الغلو. وأصبحت هذه التهمة متبادلة بين الطائفتين السنية والشيعية. فالسنة يتهمون الشيعة ومخابرات دولة إيران بصناعة أو اختراق هذه الجماعات المتشدده . والشيعة يزعمون أن المحضن الفكري والمذهبي لهذه الجماعات هي الرؤية المذهبية السائدة في المملكة العربية السعودية والشيعة أنشط في السعي بهذه الدعاية في الأوساط الغربية التي تتجاوب معها بسالفة التحيز الفكري والإسلاموفوبيا.. وكذلك فإن بعض الجماعات السلفية ترمي الجماعات الإخوانية بالتهمة ، وبعض الجماعات الإخوانية ترمي الجماعات السلفية بالتهمة . والجميع لا يقتربون من التشخيص الصحيح للقضية، فالظاهرة في بعدها الفكري مثلما هي أية ظاهرة فكرية نتاج تفاعل وتداخل أفكار متعددة منها ما هو متأثر بأفكار موروثة وأخرى معاصرة ، بعضها يعود للفكر السلفي ، وبعضها للرؤية السياسية الإخوانية للواقع المعاصر، وبعضها متأثر حتى بأفكار غربية ذات طابع ثوري شمولي، فلا فائدة من المبارزه الجانبية بين المذاهب والجماعات . وإنما يجب التركيز على فهم المشارب الفكرية لظاهرة الغلو المعاصر . وهي وإن أشبهت بعض ظواهر نشوء جماعات متشددة في الماضي مثل الخوارج أو القرامطة، فإن إعتبارها إمتداداً لذات الأفكار وكأنها سليلة لتلكم الجماعات خطأ ينأى بنا عن التشخيص السليم للحالة الراهنة.
دراسة المحتوى الخطابي للغلو المعاصر

يفتقر الخطاب المنتسب لجماعات الغلو العنيف بالفروعية وغياب الرؤية الكلية الأصولية . فهو مجموعة فتاوي وتفاسير لآيات وأحاديث متناثرة لا تنتظم في رؤية شاملة لمراد الدين في تفسير ظاهرة من الظواهر أو علاقة من العلاقات بين الأفراد والجماعات. وهي بذلك تبرز واحدة من أزمات الفكر الإسلامي المعاصر ، وهي فروعيته وجزئيته. ويصبح الدين لدى هؤلاء الشباب جمهرة فتاوي وأحكام آمرة ناهية مثلها مثل صيحات الآمر العسكري الذي يصرخ في جماعته أفعلوا أولا تفعلوا . وبذلك لا تفهم الجماعات من خلال هذه الأوامر إلى أين يمضي المسار بها وإلى أي مقصد أو غاية ينتهي. وهذه الفروعية والجزئية في الفهم تقود إلى ظاهرة فكرية أخرى هي الظاهرية، أي أن الأوامر الدينية والأحكام تبدو وكأنها لا تحتاج إلى تفسير أو تأويل، وإنما تفهم على ظواهرها. بينما الأصل في كل شيء وفي كل خطاب أن له ظاهر وباطن . وهؤلاء يقرأون آية سورة آل عمران ويمرون عليها مرور العابرين ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فإن الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا ألو الألباب” يقول ابن كثير في تفسير الآية آيات محكمات أي بينات واضحات الدلالة لا إلتباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها إشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما إشتبه عليه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد إهتدى. وهو يقول أن التأويل الذي هو عمل الراسخين في العلم ، إنما يكون بجعل الآيات المحكمات مراجع لفهم ما تشابه من الآيات. والتشابه في اللغة أمر لا معدى عنه ، لأن اللغة تعمل بوسائل الإشارات والدلالات والإيماءات ويتطور المفهوم فيها بتغير الأحوال والانساق والمساقات. وقد خاض المفسرون وأهل اللغة في موضوعات التشابه اللغوي المتأتية من إستخدام التشبيهات والكنايات ودلالة العبارة ودلالات الإشارة ودلالة الوقف والإتصال . وتوسعت تلكم العلوم في زماننا هذا توسعاَ هائلاَ ، فأصبح للغة علوم لسانيات تتوسع يوماَ بعد يوم، وتمكن بتوسعها الدارسين من فهم غوامض دلالات التعابير اللسانية والنفسية على حدٍ سواء.

الآفة الظاهرية :

والظاهرية في الدين هي أكبر إنحرافات الفهم له، ذلك أنها تحيل الدين إلى طقوسية بلا معنى ولا مقاصد . فيكون إعتبارها للمباني لا المعاني ، وتعويلها على الألفاظ لا على دلالة الألفاظ ، وعلى قوالب ومظاهر العبادة لا على نياتها التعبدية ونفعها العاجل والآجل. ولا شك أن حفظ النصوص المتعلقة النازلة واستظهار الآيات والأحاديث أمر يسير لا يحتاج إلى أن يكون المرء راسخاً في العلم كما هو الشأن في الفقه والتأويل . ولذلك فقد تكاثر أهل الفتوى في تلكم الجماعات وما يُشابهها، ، فكل حافظ للقرآن ومستظهر لطائفة من الأحاديث عارفٍ ببعض أخبار سيرة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنف عاجلاَ من أهل الرسوخ في العلم ، وهو لا يعدو سابحاً في طافيا في سطحه محروم من أدوات الغوص في أعماقه لاستجلاء غوامضه وسبر أغواره واستخراج لؤلؤات المعاني منه.
وكذلك ان عاهة الفكر الظاهري وآفته الكبرى هي افتقاره للأصولية والمقاصدية . ولابد لكل فكرة من أصل كلي ترجع إليه ، فيكون مرجعيتها ، وإلى مقصد تتجه إليه فيكون غايتها التي يُنتفع بها في العاجلة والآجلة. ومع إفتقار الظاهرية الجديدة للفهم الأصولي والمقاصدى إفتقرت للوعي الديني الشامل . والأصل في الدين أنه وعي بالواقع يتصل بالمرجعيات والمقاصد . وإلا صار تقليداً أعمى مثل تقليد الشيعة لمراجعهم بغير فهم أو بصيرة ، أو تقليد غلاة السلفيين للسالفين من أهل العلم بغير فهم ولا إدراك. وكلا الطرفين يحسب أن كل فكرة متجددة في تأويل النصوص كيما يفهمها فهماً معاصراً متصلاً بالواقع هي بدعة وفتنة إن لم يذهبوا في تعجلهم إلى تكفير صاحبها أو أصحابها وإخراجهم من الملة ضربة لازب.
ومما مكن وسهل وساعد على إنتشار هذه الفوضى الفكرية من الأسباب هو غياب المؤسسات العلمية ذات المرجعية . فقد صار أمر السلطات العلمية إما إلى تماهي مع السلطة السياسية، وهذا غالب الحال وهى سلطة لا تحظى بثقة ولا مقبولية الجمهور من شعبها كذلك فى غالب الحال ، أو إلى معارضة ومناجزة تُخشى عقابيلها. وقد صار شأن مؤسسات مثل الأزهر والزيتونة والقرويين إلى أن صارت توابع علمية للنظام السياسي وفقدت صدقيتها العلمية لدى الجمهور . ونشأت في مقابلها جماعات دينية مستقلة أو معارضة يُفتي كلَ منها حسب ما تعتمده الجماعة فصارت وكأنها مذاهب جديدة . ولكن بغير المعايير الضابطة المضطردة التي تتميز بها المذاهب المعلومة. والأنكى من ذلك أن هذه الجماعات قد تحولت إلى ما يشبه الأحزاب السياسية في علاقتها التنافسية ببعضها البعض، ومنعها التعصب الذي يبديه البعض منها تلقاء البعض الآخر من أن تحوز على ثقة الجمهور الواسع ، بل أصبحت وكأنها مذاهب خاصة بأعضائها وحدهم، وأدى ذلك إلى تبعثر الأطروحات وتشتت المبادرات الفكرية، بل وتناقضها في كثير من الأحيان مما أدخل الشباب الناشيء في قدر غير يسير من الحيرة والإرتباك.

نواصل
د/ أمين حسن عمر