تحقيقات وتقارير

المعارضة تسقط في امتحان الديمقراطية .. صلاح قوش .. الجنرال يربك مداخلات الساسة بـ(الواتساب)


معارضون يغادرون “القروب” وآخرون يحذرون من الإقصاء وإثارة الغبائن
مناوي: العدالة لا تتجزأ و”قوش” فرد من نظام سياسيٍّ متكامل

إبراهيم الشيخ: لا نرفض الآخر المغاير ولا نسعى لعزل أحد أو إقصائه
الطيب مصطفى: من يطالبون بالديمقراطية عليهم أن يتجرعوا علقمها المر

إبراهيم الخواض: مصير ضباط بيت الضيافة العُزَّل ينتظرنا من أصحاب اللون الأحمر
أبوبكر عبد الرازق: إذا لم نحتمل بعضنا في (واتساب) فكيف سنحتمل بعضنا في ساحة وطن؟!

كمال عمر: تعلمت العفو من الشيخ حسن الترابي ولا اعتراض على صلاح قوش من هذا المنطلق

تسببت إضافة مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق الفريق صلاح عبد الله الشهير بـ (قوش)، بمجموعة (واتساب) تحمل اسم (صحافسيون)، في عاصفة من المناقشات والحوارات السياسية، على خلفية مغادرة عدد من أعضاء (القروب) يمثلون أحزاب وتيارات وأشخاص معارضين للحكومة، احتجاجاً على فكرة مشاركتهم في (قروب واتساب) واحد مع الفريق قوش، مستنكرين لخطوة إضافته، مما دفع مدير (القروب) إلى الاعتذار من مدير الأمن والمخابرات السابق وإزالته من المجموعة، بيد أن قادة أحزاب سياسية معارضة لم ترفض انضمام (قوش)، ورأت أن الرجل لم يك يُمثِّل نفسه عندما كان مسؤولاً في الحكومة وإنما يُمثَل نظاماً سياسياً.

وأثارت الحادثة جدلاً واسعاً حول قضية الديموقراطية في السودان، واعتبرها بعض أعضاء (القروب) اختباراً لمدى مصداقية الاعتقاد بقبول الآخرين لدى المعارضين الداعين إلى إسقاط الحكومة، وعدّ البعض الحادثة بأنها تكشف نوايا بعض القوى السياسية المعارضة لفكرة الحوار الوطني، ووصل الأمر بعد الاحتجاج المعارض لعضوية صلاح قوش بأن كتب أحد أعضاء القروب: أن بعض أصحاب (اللون الأحمر) وإن تدثروا بألوان قوس قزح الزاهية فإن ما فعلوه بالعُزّل من ضباط القوات المسلحة في بيت الضيافة هو ذات ما ينتظرنا إن وجدوا إلى ذلك سبيلا، في تذكير بالحادثة الشهيرة التي عرفت تاريخيا بـ”مذبحة بيت الضيافة” والتي يُتهم الحزب الشيوعي السوداني بتدبيرها خلال انقلاب فاشل على الرئيس جعفر نميري عام 1971م.

أصل الحكاية
بدأت الحكاية في قروب (واتساب) سمي (صحافسيون) اختصارا لمجموعة أعضائه من الصحافيين والسياسيين الذين يمثلون قادة في غالبية القوى السياسية المعارضة والمؤيدة للحكومة إلى جانب مسؤوليين حكوميين من وزراء وولاة ونظاميين وعدد كبير من أهل الفكر والرأي، وقد عرفت هذه المجموعة بالعديد من النقاشات حول مختلف القضايا السياسية، وكانت ساحة إلكترونية لتبادل الكثير من الآراء والملعومات.

وفي يوم أمس الأول قرر مشرف (القروب)، إضافة الفريق صلاح عبد الله (قوش) بوصفه شخصية مرموقة، وبمجرد أن تمت هذه الخطوة غادر مجموعة من الأشخاص احتجاجا واستنكارا لفكرة وجودهم في قروب واحد مع أبرز مسؤول سابق في عهد الإنقاذ ومدير أمنها ومخابراتها في يوم من الأيام، ولأن المغادرين من المؤسسين للقروب الذي يحمل كل ألوان الطيف السياسي وأهل الفكر والمعرفة، آثر مدير القروب إزالة صلاح قوش من القروب بعد أن استأذنه في ذلك، لكن إزالة قوش أيضاً أثارت عاصفة من الانتقادات وصفها البعض بأنها سقوط مريع للديمقراطية التي يتشدق بها البعض من قوى المعارضة فما الذي حدث بالضبط وما هو الفعل ورد الفعل من الجميع، خاصة بعد مداخلة الكاتب الصحافي عادل الباز الذي كتب حول ما حدث بأنه أكبر من أن يكون (قروب واتساب) بل هي قضية جوهرية لقضايا السلام في المستقبل وكيفية تقبل الآخر.

المرارات القديمة:
(إني عاهدت الله عهدا صادقا بالعفو عن حقي الخاص في كل ما ارتكب بحقي من سجن وتعذيب وتضييق في الرزق، وفي كل ما تعرضت له أسرتي الصغيرة من عذابات ﻻ تزال آثارها النفسية باقية على ابنتي الصغيرة، رغم ذلك حرصت على العفو الخاص لله ورسوله رغم المرارات الأليمة والغصة التي تجعل من الألم جمرة في الحلق ونارا في الصدر، و أشهد الله لم تبارحني يوما إذ ما زالت تقلق مضجعي وتؤرق نومي وتحفزني على الثأر البغيض ورغم ذلك ولأني حريص على ذلك العهد، عهد العفو الذي احرص على تذكير نفسي به يوميا قبل أن أنام، عليه أحبتي الكرام وحفاظا على ما تبقى من نفس طالع ونازل بحمده سبحانه تعالى ولكي ﻻ أضطر للنكوص عن عهد حريص على الالتزام به أمام نفسي وأمام الله صادقا.. ولكي ﻻ يوجعني الصبر أكثر ومن جديد، ولكي ﻻ تفلت مني كلمة في هذا القروب تخرج في لحظة ﻻ أستطيع تداركها لكل ذلك أستميحكم عذرا لمغادرة القروب والعفو والعافية، وربنا يقدرنا جميعا على ما فيه خير العباد والبلاد). بهذه المداخلة تحدث الناطق الرسمي باسم حزب البعث العربي الاشتراكي محمد ضياء الدين، قبل أن يغادر القروب أعقبه اتهام مباشر من إبراهيم الشيخ عضو المجلس المركزي لحزب المؤتمر السوداني لمدير القروب بالتطبيع مع الحكومة وقال له: (أنت تمارس أكبر عملية تطبيع مع العصبة المتنفذة عبر هذا القروب). ثم غادر كل من محمد ضياء وإبراهيم الشيخ، وعندها دخل مدير القروب في أمر محرج ما كان منه إلا أن استأذن (قوش) في إزالته حفاظا على أعضاء القروب الذين أعلن بعضهم اللحاق بمحمد ضياء وإبراهيم الشيخ.

الإقصادء والديموقراطية:
اشتعل الموقف بعد مداخلة للكاتب الصحفي عادل الباز حيث قال: (إن فكرة الإقصاء خطيرة تصلح للهتاف وإثارة الغبائن ولكنها لا تبني وطنا). وأضاف: (من كان لديه قضية مع قوش فليذهب بها إلى المحكمة في أي زمان وأي مكان و-إن شاء الله يشنقو بعد داك). وقال: (ينبغي أن لا نغذي في أنفسنا مشاعر الكراهية. ولم ينس الباز التذكير بأن صلاح قوش قد أغلق صحيفته أكثر من مرة عندما كان مديرا للأمن والمخابرات وقال: (لقد زج بي قوش في دهاليز السجون ثلاث مرات.. ولو تابعنا هذه الإحن فلن يبقى هناك وطن.. النميري قتل المئات من الأنصار في ودنوباوي وختم حياته بذات الحي معززا مكرما). فما كان من إبراهيم الشيخ الرئيس السابق لحزب المؤتمر السوداني إلا أن رد عليه قائلا: (نحن قد عبرنا إحننا ومحننا صرنا بعدها مؤهلين لنتشارك قروبات مع مجموعات كنا نرفض التلاقي معها تحت أي ذريعة والحمد لله قد تعافينا وتصالحنا وصار بالإمكان أن نتلاقى ونتحاور ونشد هنا وهناك ويبقى ما بيننا وعلى الرغم من أن صلاح قوش ذاق مرارة السجن والمعتقل ردحا من الزمن إلا انني لم اسمعه نادما على ما اقترفت يداه ولم يعتذر لمئات الضحايا.. وانسحابي كان تعبيرا عن رفضي لشخص نسي أنه جاء إلى جهاز الأمن من جامعة الخرطوم عندما كان ممثلا للطلاب في اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في العام 1979م حيث مدرسة الحريات والديمقراطية وأكتوبر 1964م وكل القيم النبيلة التي تعلمناها هناك).

وكتب إبراهيم الشيخ: (نحن لا نرفض الآخر المغاير ولا نسعى لعزل أحد أو إقصائه بل على العكس تماما نحن نعمل على التصالح والتساكن مع الجميع من أجل وطن يسع الجميع).

التسامح والتصافي:
انخرط المسلمي الكباشي مدير مكتب فضائية الجزيرة بالخرطوم في النقاش رادا على الباز وكتب: (كلما حسبنا أننا قد فهمنا الدرس وتعلمنا من التاريخ نجد فرقاء الشأن السياسي في سنة أولى حتى أصبحنا في حكم المستسلم لليأس إن كان اليأس يجوز شرعا). وروى عن واقعة تاريخية للدكتور حسن الترابي مع قوش وقال: (حينما تم سجن الشيخ الترابي رحمه الله ببورتسودان في عهد قوش، وجاء منها محمولا على طائرة بعدما أكلت الرطوبة قلبه، لم يكن ذلك سببا في عدم مقابلته لصلاح قوش بروح طيبة. لدرجة أن قوش وصف المقابلة بقوله: (قابلني بأخلاق الأنبياء). معتبرا الرواية نموذجا في التسامح ونسيان الإساءة.

إلا أن محمد ضياء رد: نحن بشر ولسنا ملائكة، جميعنا يُخطئ وليس قوش وحده من أخطأ والتسامح ليس شيئا سهلا ليتم في يوم وليلة وضحاها وإن الإنسان يحتاج لوقت ليلتئم جرحه). وأضاف: (من الصعب أن تتعامل مع جلادك حتى لو سامحته وأنت ﻻ تزال تتألم.. أكثر الناس يقولون من السهل أن نسامح لكن من الصعب أن ننسى، ﻻ شئ يسمم حياتك كما الظلم). مؤكدا أنه لم يطالب بحذف قوش من قروب الواتساب ولكنه رأى أنه من الأنسب له أن يغادر وبهدوء وبدون أن يمس (قوش) بكلمة واحدة كانت من الممكن أن تشفي شيئا من صدره وقال: (رغم ذلك تعاليت على كل شئ والتزمت بعهدي ووعدي ليس خوفا من مواجهته التي في تقديري لن تضيف شيئا كما يعتقد البعض بل لإيماني بأن التسامح جزء من العدالة). ودعى ضياء الأعضاء لأن لا يطلبوا منه أكثر من ذلك لأنه ليس ملاكا بل بشر وقال: (بصراحة خالص أنا شخصيا أصارع نفسي وأعمل على قهر مشاعر الظلم ومرارة الكراهية تجاه الآخر الظالم في داخلي وهو صراع لو تعلمون غير يسير).

مناوي متصل:
من ناحيته دعا رئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي إلى عدم إبعاد صلاح قوش من القروب بحجة تاريخه في السلطة وإبقائه وقال: (الإبعاد لا يغير النظام). وأكد مناوي في اتصال مطول بمشرف القروب ظُهر أمس الثلاثاء، أن قوش جزء من نظام مثل اللواء إبراهيم الخواض مدير مكتب علي عثمان محمد طه والبروفيسور إبراهيم غندور وزير الخارجية وعمار باشري أمين الاتصال التنظيمي بالمؤتمر الوطني والدكتور قطبي المهدي مدير جهاز الأمن السابق.. وكلهم موجودون في قروب (صحافسيون).

وذكر مناوي لـ “مشرف القروب” أن العدالة لا تتجزأ، مشيرا إلى أن بعض المشاركين في الاعتقالات إبان عهد قوش هم الآن جزء من المعارضة، ودعا مناوي الجميع إلى النظر لقوش كغيره من أهل الإنقاذ خاصة وأن جزءا منهم الآن في المعارضة، مشيرا إلى أن المعارضة تتعامل معهم كأمر واقع رغم المرارات.

تصرف لا يليق:
أبوبكر عبد الرازق القيادي بالمؤتمر الشعبي روى قصة اعتقاله إبان تولي قوش لإدارة الأمن والمخابرات وتعرضه للسجن في الحبس الانفرادي ولكن على الرغم من كل ذلك قال: (ﻻ أرى سببا لرفض إضافة قوش أو مغادرة القروب). وأردف: (إذا لم نحتمل بعضنا في (قروب واتس) كيف نحتمل بعضنا في ساحة وطن)؟ ورأى أن مغادرة القروب لا تليق بشخصيات مثل محمد ضياء الدين وإبراهيم الشيخ اللذيْن وصفهما من الكرام الأفاضل.

من ناحيته، دعا الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي كمال عمر للتعافي والتصافي وقال: (دعونا نتعافى ونتصالح ونتواثق على قيم الحرية والديمقراطية). وذكَّر عمر باستقبال الشيخ حسن الترابي لقوش، كاشفا عن ضحكات وانشراح كان مثار دهشته، مؤكدا أنه سأل الشيخ حسن عن ذلك فقال له: (لا تنظر إلى الوراء) ودعا كمال إلى عدم إبعاد قوش وقال إن على الجميع أن يفتح قلبه دون إقصاء.

الحجة الباطلة:
من ناحيته هاجم عمار باشري أمين الاتصال التنظيمي بحزب المؤتمر الوطني المغادرين من القروب بسبب إضافة صلاح قوش وقال: (لم يفزعني إضراب القوم ولا هياجهم وذعرهم ولا لطم الخدود وشق الجيوب بقدر متفاوت بينهم كما وكيفا ولا ذكرهم لسالف ماضيهم، بقدر فزعي لمنطق رفضهم مهتوك الستر المبين لعورة حجتهم الباطلة عند قياسها ومعايرتها في أقرب منعرج وأدنى موقف. فمحاولاتهم حد التماهي والذوبان الطروب بلا كابح وبغير هدى مع الوالغين في الدماء من أخمص أقدامهم حتى رؤوسهم المشيبة لهول فظائعهم وجرائمهم من قادة الحركة الشعبية مُذ عرَّابها (قرنق) صاحب الحلم الموؤود وحتى (سلفا) المسكين مروراً بقادة التمرد بدارفور ممن قضوا على كل نفس تقف بطريقهم دون تمييز بين محارب ومسن وطفل وأعزل. كل ذلك يجعلهم كمن يرقص عاريا في حلبة الذكر في هوجة مجذوب ضَل طريقه إلى نار المسيد. وما بقرتهم المقدسة ولا نار المجوس التي يدورون حولها ويدندون بها بالعشي والإبكار حتى صموا آذاننا وعموا أبصارنا بضوضائها ورفثها (الديمقراطية) إلا أحجية أشبه “بالبعاتي” يخوفون به الصغار حتى لا يمسون خارج مضاجعهم، أقول ذلك وقد تكرر ذات الفعل كلما لاحت بارقة أمل للتلاقي ليس حباً ولا وداً فلا هم ببثينة ولا نحن بجميل يذوب عشقاً في هواها ولكن وحدها إرادة الله الغالبة جمعتنا في وطن رُزئ بهم وأُبتلي بِنَا وليس من سبيل سوى الاستماع لبعضنا على ضُرٍّ ومصابرة من الطرفين بُغية الوصول لما يرضي الجميع بمستوى حدٍ أدنى من التعايش نجربه سويا ولو لحين).

قروب للجميع:
الطيب مصطفى، رئيس “منبر السلام العادل” تدخل وقال لمشرف القروب إنه يأسف لتعرضه للابتزاز من قبل بعض قوى المعارضة. مشيرا إلى أن القروب للجميع وقال: (يعلم الله أنني هاجمت قوش أكثر من مرة في صحيفة “الإنتباهة” ولكن القروب ينبغي أن يسع الجميع ولا يفرض شخص آراءه بالابتزاز بأسلوب أو منهج “يا أنا يا هو”). مضيفاً: (من يطالبون بالديمقراطية عليهم أن يتجرعوا علقمها المر وما تفرضه من تعايش مع لأوائها). وزاد الطيب قائلا: (رغم أسفي الشديد لكل ما حدث للذين تعرضوا لظلم أجهزة الأمن داخل السودان وخارجه بمن في ذلك من تعرضوا لبطش نظامي البعث العراقي والسوري اللذيْن لم يكونا ديمقراطييْن ولم يكونا أرأف بمعتقليهما من معتقلي صلاح قوش بل كانا أشد فتكا ووحشية، فإني أطالب بإرجاع قوش حتى نطبق مقولة “وطن يسع الجميع” في هذا القروب الاسفيري تمهيدا لتطبيقها خارجه تمرينا لأنفسنا على ممارسة الحريات التي ظللنا نطالب بها آناء الليل وأطراف النهار).

الجميع شركاء
الدكتور عبد الرحمن الخضر، القيادي بالمؤتمر الوطني، قال إنه يعجب لأدعياء الديمقراطية وقد سال في (صحافسيون) القروب مداد كثير بشأن إضافة قوش، مشيرا إلى أن الجميع شركاء وقال: (إن قوش تولى موقعا عاما في مؤسسة عامة تعتبر جزءا من نظام كامل). متسائلا عن لماذا يُحمَّل الأمر له لوحده مؤكدا أن المسؤولية التضامنية واحدة لكل من شارك في النظام وقال إنها لا تتجز.

مصير بيت الضيافة
من ناحيته قال إبراهيم الخواض مدير مكتب الشيخ علي عثمان إنه يخشى أن يكون دأب المعارضة الإقصاء، مشيرا إلى (أن أصحاب اللون الأحمر وإن تدثروا بألوان قوس قزح الزاهية فإن ما فعلوه بالعُزّل من ضباط القوات المسلحة في بيت الضيافة هو ذات ماينتظرنا إن وجدوا إلى ذلك سبيلا). ودعا الخواض للتوحد ضد هؤلا وقال: (علينا بالتوحد فالعدو واحد وإن اختلفنا في وسائل الوصول إلى الهدف).

مرافعة الدقير
رئيس المؤتمر السوداني عمر الدقير كان رأيه من رأي إبراهيم الشيخ ومحمد ضياء حيث كتب مداخلة طويلة قال فيها: (عند خروجه من سجنه الطويل كان طبيعياً أن يواجه مانديلا اشتعال نيران الانتقام في صدور قطاعات واسعة من أولئك الذين تعرَّضوا لأبشع أنواع الظلم والقهر والاضطهاد وامتهان الكرامة وانتهاك الحقوق الأساسية، خاصة بعد أن دانت لهم مقاليد السلطة وامتلكوا إمكانية الثأر.. غير أنَّ مانديلا رفض الدعوة للثأر والانتقام من جلاديه هو شخصياً ومن منتهكي حقوق بني جلدته ودعا إلى الصفح، لكنه قال أيضاً: “نعم للصفح .. لا للنسيان”.

وقاد بنجاح حملة حزبه الإعلامية لنشر ثقافة المكاشفة والاعتذار والتسامح والمصالحة وإعانة الناس على فضِّ الاشتباك بين ما يتذكرونه وما يحلمون به، حتى لا يتسرب الحاضر من بين أيديهم ويجرف معه المستقبل.. هذه القدرة على قيادة هذا التجاوز الإنساني النبيل والباسل لواقعٍ تاريخي أثقل الذاكرة الجمعية بالمرارات ومشاعر الغضب، جعلت من مانديلا مثالاً جديراً بالاحترام، بل بالتعميم على نطاق كوني وذلك لأنَّه رفض أن يكون هو أو أفراد شعبه تلاميذاً لجلاديهم، وأدرك برهافة الثائر وحسِّه الأخلاقي وبعد نظره كيف يمكن للضحية أن تسمو فوق جراحها وذاكرتها الملتاعة وتعلن العصيان على تعاليم جلادها وألَّا تسمح له بأن يلدغها بسموم الكراهية والبغضاء والنبذ والإقصاء، وأن تبدو كما لو أنها تكمل المشهد الأخير لتراجيديا إغريقية يهدي فيها المنتصر سيفه للمهزوم والصفح عن أخطاء قابلة للصفح عنها ليس هو الصفح بمعناه الحقيقي كما يقول جاك دريدا، وأعتقد أن معظم الناس ليست لديهم مشكلة في هذا، لكن المشكلة تبرز عندما يكون الصفح مطلوبا عن خطايا لشدة فداحتها لا تحتمل الصفح، ومن هنا تجيء أهمية عبارة مانديلا المُكتنزة “نعم للصفح.. لا للنسيان”، ذلك أن الصفح قرين الذاكرة الحية، فالصفح لا يتم إلا باستحضار الخطايا كما وقعت من دون أية محاولة تبرير أو تجميل.. وللضحية أن تشترط اعتراف المعتدي بالجرم الذي ارتكب واعتذاره عنه..
ومقصد الاعتذار الصادق، في بُعْدِه المعنوي، هو تعبير عن مُخرجات نقدٍ ذاتي وصحوةٍ إنسانية لتحقيق التوازن الأخلاقي.. ولكي يتم هذا المقصد، لا بدَّ أن يصاحب الاعتذار اعترافٌ صريحٌ بالجُرْم وإعلان النَّدم عليه والتراجع عنه إذا كان لا يزال ماثلاً ومراجعة الرؤى والممارسات التي أنتجته بُغية تفادي تكراره، وتقتضي اعتبارات النُّبل الأخلاقي الصفح والغفران عن أية خطيئةٍ وقعت سهواً أو جهلاً وتمَّ التراجع عنها، أمَّا أن يظل نظام الانقاذ السنين الطِّوال يقترف أفعالاً وأقوالاً يعرف تمام المعرفة أنَّها عبثٌ بمصيرِ وطن وتسفيهٌ لأحلامِ شعب وانتهاكٌ لكرامةِ الانسان ومنظومةِ القيم وكلِّ ما له صلة بالحقيقة، ويرفض التراجع عن كل ذلك، فلا تثريب على الضحايا إذا اعتبروا كلمات كل من يطالبهم بالنسيان والصفح والغفران والنظر للمستقبل مجرد جملة معترضة توضع بين قوسين في كتاب الظلم، ولا جناح عليهم إذا استعصموا بعبارة صاحب قصيدة الأرض اليباب، ت. إس. إليوت: “أيُّ غفرانٍ يُرتجى بعد كلِّ هذه المعرفة ؟ ومع ذلك لا نرفض حلا سياسيا ينتج تغييرا حقيقيا وليس شكليا.. تغيير يزيح دولة التمكين لصالح دولة كل الناس وعدالتها التي تعطي كل ذي حق حقه وتأخذ من كل مذنب ما عليه.. تغيير ينقل الوطن إلى رحاب السلام والحرية وكل شروط العيش الكريم).

الخرطوم: عطاف عبد الوهاب
صحيفة الصيحة