الطيب مصطفى

بين سفهاء مصر ومكانة السودان


من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
يؤسفني أن استشهد بهذا البيت المعبر عن حال العاجز المستسلم بين يدي حملة السخرية التي ضجّت بها بعض الأسافير المصرية تهكماً من السودان والسودانيين جراء قيام السودان بوقف استيراد بعض المنتجات الزراعية المصرية أسوة بما أقدمت عليه دول أخرى سبقتنا في اتخاذ ذلك القرار، لكن ألسنة أولئك السفهاء كفّت عن الإساءة لتلك الدول والشعوب أما (الحيطة القصيرة) فقد كانت هي (السودان) وشعبه الذي نال كثيراً من الأذى والسخرية حتى في القنوات الفضائية المصرية مما يستحق ردة فعل قوية من إعلامنا وصحافتنا تنتصر لكرامتنا المهدرة.

أعلم أن كثيراً من المصريين جبلوا على كثرة الكلام وتضخيم أدوارهم وقدراتهم بالحق أو بالباطل في أي محفل يجمعهم مع آخرين على العكس من الإنسان السوداني المعروف في الغالب بتواضعه الجم وميله إلى الصمت وتقليل الكلام وذلك مما حبّب الشخصية السودانية لدى كثير من الشعوب التي تقدمها على الجنسيات الأخرى خاصة المصرية التي رسمت لها صورة ذهنية سالبة في كثير من الدول العربية.

رغم ذلك فإن مما جال بخاطري الآن ودفعني إلى التعليق على تلك الحملة الضارية التي استهدفت (الزول) السوداني ما كان عليه السودان في أيام سلفت ، من عزة ومكانة جعلته يتبوأ مكاناً عليا استطاع أن يقود به العرب ويجمعهم في الخرطوم في أعقاب هزيمة حزيران 1967 وهناك صورة إرشيفية متداولة هذه الأيام في مواقع التواصل الاجتماعي لمحمد أحمد محجوب وزير خارجية السودان واقفاً يتحدث وكان يجلس أمامه وينظر إليه بإعجاب كل من العاهل السعودي الملك فيصل بن عبدالعزيز والرئيس جمال عبدالناصر والملك حسين بن طلال وعدد من الزعماء العرب المجتمعين في الخرطوم في تلك القمة التي ضمّدت جراح العرب وخرجت باللاءات الثلاثة الشهيرة في مواجهة إسرائيل.

كان المحجوب في تلك الأيام يخاطب اجتماعات الامم المتحدة بنيويورك بالنيابة عن العرب بلسانه المبين وكان السودان ذا حضور دولي قبل أن تنشأ دول تملأ الدنيا هذه الأيام بصيتها وتشغل الناس وكان يبتعث رجاله ليسهموا في إنشائها وكانت فرقه الرياضية مثلا أعلى لفرق عربية تسمت باسمائها مثل (الهلال) السعودي فيا لهاتيك الأيام.

لذلك كله كان قرار إسرائيل الإستراتيجي الذي عبر عنه وزير الأمن الاسرائيلي آفي ديختر باتخاذ السودان عدواً استراتيجياً والعمل على كبح تقدمه ونهضته لأنه ، حسب قوله ، مؤهل للعب دور كبير في محيطه العربي.. نعم ، كانت إسرائيل تخشى السودان وكان من بين تلك الأدوار ذلك الذي لعبه السودان في إبرام المصالحة بين الفيصل وعبدالناصر ثم قيادة تلك القمة التي وحّدت العرب في مواجهة إسرائيل.

هل كان أولئك المغردون المصريون ممن سلقوا السودان وشعبه بألسنة حداد تهكماً وسخرية (وتنكيت).. هل كانوا يجرؤون في تلك الأيام العزيزة على الجهر بتلك النكات في حق السودان والسودانيين؟! بالطبع لا فقد كان السودان كبيراً لكنه تقزم بعد ذلك وتدنت مكانته كثيراً لدرجة أنه باتت تتدخل في شؤوننا وتسعى لحل مشكلاتنا دول صنعناها بأيدينا فوا حر قلباه.

لا سبيل إلى عودة السودان إلى أيام مجده الغابر إلا بحل المشكلة السياسية التي تسببت في كل مشكلاته الأخرى فقد أوذينا من الحروب التي عطّلت مسيرتنا ومرّغت سمعتنا وجعلتنا أحاديث تلوكها ألسنة العالم أجمع وفضائياته.

ليت الحزب الحاكم يضع نصب عينيه أنه المسؤول قبل غيره من الإصلاح السياسي الذي لا سبيل غيره لنعود إلى مسار النهضة والتقدم لننال بعدها الاحترام والتقدير الذي كنا سادته ولن يتأتى ذلك إلا باتخاذ قرارات كبيرة وجريئة نتجاوز بها العقبات التي تقف حائلا دون تحقيق الأهداف التي ما ابتدر الحوار إلا من أجل بلوغها.

واهم من يظن أن انعقاد مؤتمر الحوار في العاشر من أكتوبر القادم – بمن حضر – سيحل مشكلة السودان فوالله العظيم أن حواراً منقوصاً لا يوقف حرباً ولا يستصحب معه من يحملون السلاح لا خير فيه ولا جدوى منه فإما أن نتخذ القرارات الكبيرة الكفيلة بإحداث اختراق يزيل الانسداد نحو دولة الحكم الراشد والسلام العادل التي تعيد السودان إلى حيث كان عزة وشموخاً أو تأجيل المؤتمر بما يمكن من تحقيق تلك الأهداف التي لا معنى للحوار بدون تحقيقها.

الصيحة