تحقيقات وتقارير

وظائف الخرطوم.. المكان المناسب للشخص غير المناسب


لم تتمكن الدولة رغم مناداتها بالإصلاح الإداري، أن تكافح منهجها في الترضيات وخلق إدارات بمؤسسات لترضي أحدهم وتصنع له منصباً من ورق دون مهام فعلية، ما يكلف الدولة ميزانيات ضخمة تكون خصماً في المقابل على المشاريع التنموية والوظائف الحقيقية التي يحتاجها سوق العمل، فيما يعاني المواطنين الطالبين لخدمة بوزارات ومؤسسات ولاية الخرطوم من عدم وجود نافذة موحدة تختصر عليه عناء أيام يظل يلهث فيها وربما لأسابيع ما بين إدارة بمحلية ونظيرتها بالوزارة الولائية.

والداخل لأي مؤسسة حكومية تابعة للولاية يلحظ العدد الهائل من الموظفين، إلا أنه في المقابل تتأخر المعاملات مما يؤدي إلى مشاكل لا حصر لها، منها إضاعة الملفات في مكاتب تعمها الفوضى ويجهل موظفوها مسماهم ومهامهم الوظيفية، حيث رفع موظفون الستار عن تقلدهم لوظائف في غير تخصصاتهم حصلوا عليها بطرق مختلفة، ومسؤولون أماطوا اللثام عن أفواههم وصرحوا بأن هنالك تراكم إدارات لا مهام لها.

*تأخر مصالح
تذمر عدد من المواطنين من تعقيد بعض الإجراءات وعدم إتمامها في الوقت المطلوب، وأرجعوا ذلك إلى كثرة الإدارات الموجودة بالمؤسسات ووصفوا ما يعانوه بأنه (جرجرة ومماطلة)، حيث قال المواطن عبدالمنعم صديق: ما أن أذهب إلى إحدى المؤسسات الحكومية لغرض ما، إلا ويقولون لي أذهب لفلان، وبدوره يحولني إلى جهة أخرى، وأضاف حسن محمد أن هنالك إدارات كثيرة بالمؤسسات ومع ذلك تتأخر مصالح المواطنين.

*وظيفة دون دراية
فخرالدين عبدالله، درس هندسة زراعية ويعمل محاسباً بإحدى الشركات الخاصة، قال إنه عمل في هذا المجال دون سابق معرفة به، وبالممارسة تعلم كيفية عمل المحاسب، وأضاف أن أصحاب العمل يفضلون الشخص غير المتخصص لقلة الراتب الذي يتقاضاه، عكس الشخص المتخصص في مجاله.
تقول الموظفة بإحدى الوزارات – فضّلت حجب اسمها- إها تقدمت لوظيفة بمؤسسة حكومية عبر لجنة الاختيار وبعد أن تم قبولها بالمؤسسة قاموا بتوزيعها مع عدد من الموظفين الجدد إلى بعض الوزارات، ووجدت نفسها في مجال لا تعلم عنه شيئاً خلاف تخصصها. ويروي حيدر عبدالكريم ما دار من نقاش بينه وين إحدى الموظفات بمستشفى حكومي عندما سألها عن الفارق بين المختص النفسي والباحث الاجتماعي بحكم كونها تعمل في مكتب البحث الاجتماعي، وجاءت إجابتها بأن لا فرق بينهما، وعندما احتد النقاش قالت إنها لا علاقة لها بالمجال، وقد درست اقتصاد وجاءت لهذه الوظيفة عن طريق وساطة أحد أقاربها.

وحكاية أخرى ترويها شذى أحمد أنها كانت مريضة وذهبت لإحدى المستشفيات، وعندما طلبوا منها عمل صورة أشعة لاحظت شذى ارتباك الموظفة وترددها في عملها، ولم تطمئن لنتيجة الصورة، وعندما استفسرت عن تلك الموظفة اكتشفت أن لاعلاقة لها بالمهنة وأنها درست علوم سياسية.

*المحسوبية
وفيما يتعلق بالترضيات والتعيينات فخير مثال على ذلك ما تمارسه وزارة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم والتي عينت خريجة كيمياء عضوية كأمين عام لمجلس الطفولة الولائي، فيما تعج الوزارة بخريجي كليات علوم الاجتماع وحاملي الدكتوراة في التخصص، بل تذهب إلى أبعد من ذلك وتسمي خريجي كليات الكيمياء العضوية كرؤساء للإدارات الاجتماعية بالمحليات.

*حظر وعقوبات
ويلفت رئيس منظمة الشفافية الطيب مختار إلى أنه يحظر استيعاب الموظفين في مجالات غير تخصصهم، وقال إنه ممنوع منعاً باتاً عمل أي شخص في مجال غير تخصصه ومحظور بالقانون واللوائح، وأضاف أنه يعاقب كل من يستوعب شخصاً في وظيفة خلاف تخصصه، وأوضح أن الحدود الدنيا لمتطلبات الوظيفة وجود مؤهل مطابق لها، وقال إن هذا القانون منطبق على العمل الحكومي وليس القطاع الخاص فقط الذي يخضع لقوانين تحكمه.

*تشديد الرقابة
فيما أكد وزير تنمية الموارد البشرية والعمل بولاية الخرطوم أسامة حسونة على تشديد الرقابة في الطريقة التي يتم بها اختيار الموظفين، وأوضح أن تعيين الموظفين في غير تخصصاتهم يرجع غالباً إلى طرق غير رسمية اتبعت في تعيينهم، ولمعالجة ذلك وضعت الولاية إستراتيجية جديدة وأسس تدريب فيما يسمى بالقياس التدريبي بأن يتم تدريب الموظف قبل تقلده الوظيفة، وقال يجب أن تكون هناك متابعة شهرية من المدراء العامين بالوزارات والمدراء التنفيذيين بالمحليات لتقييم الأداء الشهري، وشدد حسونة على ضرورة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وأضاف أن إصلاح الخدمة المدنية جزء من إصلاح الدولة.

*تردي الخدمة
قال رئيس لجنة التشريع والحكم بالمجلس التشريعي علي أبوالحسن إن تعدد الإدارات يحكمها وجود هيكلة، وعند إجازة الهيكلة لا تتغير الهياكل وقد سعت ولاية الخرطوم لإعادة لجنة الهيكلة وإعادة الهياكل، وكانت هنالك إشكاليات في فك الوزارات وإرجاعها، وتعمل تلك اللجنة على الهيكلة الكاملة للولايات وتحدد عدد الهيئات والإدارت بكل وزارة، ويختلف عدد الإدارات حسب حجم الوزارة، فهنالك وزارات تستوعب ثلاث إدارات أو أكثر، وتكون الإدارات تابعة للوزارة ولكل إدارة صلاحيات معينة حسب طبيعة عملها عكس الهيئات التي لها قانون محدد وميزانيات مستقلة، وأضاف أن هنالك إدارات توصيفية لا حاجة لها قامت لترضية بعض الأشخاص وتكون مهامها هامشية، وأوضح أن تعدد الإدارات إذا لم يستطع أن يفصل العمل ويعمل على تقصير الظل الإداري، يكون غير ذي جدوى، ويتسبب في إهدار المال العام، وأوضح أبو الحسن أن بعض الوزارات فيها تضخم إدارات دون الحاجة لها وأخرى تفتقد للإدارات، وهنالك معالجة لكثرة الإدارات وتسهيل الإجراءات على المواطنين بتطبيق نظام النافذة الموحدة وصولاً للحكومة الإلكترونية، وأضاف هنالك تردٍ في الخدمة المدنية نتيجة لانعدام التدريب وعدم الإحساس بالمسؤولية وأصبحت الوظيفة طاردة.

*تداخل اختصاصات
وأكد رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس التشريعي التيجاني أودون أن وجود عدد من الإدارات دون الحاجة إليها يؤدي إلى الترهل ويقود إلى تداخل الاختصاصات وتكون سبباً لتقاعس بعض الإدارات، وبالتالي يحدث توهان لمتخذ القرار ويفقد قدرته في متابعة أداء المؤسسة بالصورة الجيدة، وقال إن الإدارات تختلف من مؤسسة لأخرى وهنالك مؤسسة تحتاج إلى جسم خفيف وأخرى تحتاج إلى عدد كبير، والذي يحدد عدد الإدارات حجم المؤسسة، وأوضح أن الغرض من الإدارة التخصص وهنالك بعض المؤسسات يفترض أن تقلص من الإدارات الموجودة فيها وأن تتجه لنظام الإدارة الحديثة في ظل التقدم التقني، وأضاف أن كثرة الإدارات مخل ويؤدي إلى كثرة الموظفين والتي تعتبر تعطيلاً بدلاً من أن تكون إنتاجاً، وأضاف أن هنالك نقطة مهمة ينبغي أن تراعى في تلك الإدارات وهي إعطاء تلك الإدارات صلاحيات حتى تتمكن من اتخاذ القرارات دون الرجوع إلى الرئاسة، وأن تخضع الإدارات إلى مراقبة ومتابعة في أداء عملها، وأضاف أودون أن مستوى الرقابة الموجود نوعاً ما جيد ولكن الصلاحيات لم تنزل بالشكل الكامل، وأكد على أن المشكلة الأساسية التي تعاني منها الوزارات والمؤسسات هي مشكلة إدارية، وطالب بأن يكون هناك تقييم وتقويم للمستوى الإداري بالمؤسسة، وقال إن المجلس أصدر قوانين ولكن لم تفعل لأن المستوى الإداري لم يقم بدوره كاملاً، كما أن الأسلوب الرقابي ليس بالجودة الكاملة، إلا أنه عاد وقال (توجد رقابة لكن دون الطموح).

*هدر الموارد
أرجع الخبير الاقتصادي ووكيل وزارة التجارة السابق الكندي يوسف تأخر أي إجراء أو عمل مرتبط بإحدى المؤسسات الحكومية، إلى أنه يعود إلى عدم وجود مرشد ببعض الوزارات والهيئات، وقال إن وجود المرشد يحكم العلاقة بين المؤسسة والمواطن ويقتصر له الوقت بدلاً عن ضياعه بين الإدارات المختلفة لجهله بمهام تلك الإدارات، وأوضح أن عدد الإدارات تحدده طبيعة المنشأ وحجمها ونشاطها ومنطقتها الجغرافية ورأس مالها الذي قامت عليه، وأضاف أن لكل إدارة مهاماً محددة وكل شخص له وصف وظيفي وتتحكم فيه لوائح المنشأة ولوائح العمل وقانون الخدمة المدنية وأي عمل خلاف تلك اللوائح يعتبر هدراً لموارد المنشأة، وقال الحكومة لم تترك الأمر للوائح والقوانين فقط، بل أصدرت موجهات بعدد الإدارات بأن لا تتجاوز ثلاث إدارات رئيسية وإدارتي أنشطة وقد صدر المنشور بتحديد عدد الإدارات بعد أن لوحظ أن هنالك عدداً كبيراً من الإدارات والعاملين، وبموجب الدراسة التي عملت اختفت كثير من مسميات الوظائف التي ليست لها مهام معينة.

تحقيق:ناهد عباس
صحيفة آخر لحظة