يوسف عبد المنان

بين بلدين!!


كان السودانيون حتى عهد قريب أكثر ارتباطاً بصحافة مصر من (الأهرام) إلى (أخبار اليوم) ومن (روز اليوسف) إلى (صباح الخير).. يحفظون المسلسلات المصرية ويترنمون بأغنيات “أم كلثوم” و”عبد الحليم حافظ”.. يستشفون في الملك فؤاد والبحيرة.. والدقي.. ويطوفون سائحين في الإسكندرية والإسماعيلية.. لا ترهقهم السفارة المصرية بالخرطوم في الحصول على التأشيرات.. وكان المصري في السودان هو المعلم.. والمهندس.. والكمساري.. وبائع التبغ.. وصاحب المقهى.. حتى هبت عواصف التسعينيات وأخذت مصر تحتضن المعارضة.. وتقف إلى جانب المتمردين.. وتبادل الدولتان الأذى لسنوات طويلة.. وحينما هبت ثورة مصر واقتلعت نظام الرئيس الأسبق “حسني مبارك” ظن البعض أن سنوات القطيعة قد انصرمت.. ولكن ما كان وصول الإسلاميين للسلطة في مصر قد بدل شيئاً.. تدمرت العلاقات إلى أسفل.. بسبب النزاع حول مثلث “حلايب”.. وغادر “مرسي” السلطة إلى السجن.. وقف الشعب السوداني بعواطفه مع الضحايا.. ووقفت الحكومة السودانية مع الفريق “السيسي” رئيس الدولة والنظام الحاكم في مصر.. بفضل التفاهم وتجانس المواقف بين “البشير” و”السيسي” عبرت العلاقات مرحلة الشكوك والاتهامات والظنون.. والتربص إلى مرحلة التعاون المشترك.
وفي خضم الحملة المصرية التي شنت على السودان بسبب موقفه من المنتجات الزراعية المصرية التي أثيرت حولها شكوك عن مصادر المياه التي تغذي المزارع، أوقفت السلطات السودانية استيراد تلك المنتجات من مصر مثلها وبلدان أخرى.. لكن الإعلام المصري ترك البعيد.. وانهال على جسد الصديق.. طعناً.. وقذفاً بلغ حد الوقاحة.. في هذه المرحلة.. مشى الرئيس “البشير” بقدميه على الجمر.. ووصل “القاهرة” أمس للمشاركة في مناسبة كبيرة هي ذكرى العبور.. أو انتصار الجيش المصري في حرب أكتوبر.. وهي من المناسبات القومية في مصر والتي تحتفل بها “القاهرة” في كل عام.. ولكن زيارة الرئيس “البشير” التي تنتهي اليوم ليست حدثاً عادياً عابراً.. ينتهي بالتوقيع على مذكرات التفاهم التقليدية، هي زيارة من أجل التوصل لاتفاق حول القضايا الإستراتيجية متمثلة في التعاون المشترك بين الدولتين في القضايا الإقليمية والدولية.. ومصر تبحث عن دعم السودان وسنده لها خاصة في قضية مياه النيل التي تصطرع فيها مع إثيوبيا.. وكذلك مصر أكثر حاجة لدعم السودان في القضايا الأفريقية وخاصة (الكوميسا) التي نالت مصر عضويتها بفضل السودان.. كما أن العزلة التي يعانيها النظام المصري بسبب انقلابه على نظام ديمقراطي تجعله في حاجة لدعم السودان أفريقياً.. نعم السودان قد تجاوز حاجته لمصر كدولة مفتاحية لمنطقة الخليج أو الغرب ومصر فقدت موقعها كدولة كبيرة ورائدة في المنطقة منذ سنوات بعيدة، إلا أن سند مصر للسودان ضروري وهام خاصة على صعيد التفاوض مع المتمردين.. وبسبب مواقف مصر الرمادية من وحدة السودان خسرت هي الجنوب، كما خسر السودان ثلث أرضه.
ومن هنا.. فإن الحاجة متبادلة لمواقف مصرية داعمة للسودان وسودانية داعمة لمصر.. ولن يتحقق ذلك إلا بإرادة سياسية قوية للرئيسين “البشير” و”السيسي”، يعيدان لوادي النيل زماناً مضى وسنوات انصرمت وليس ذلك ببعيد إن عزم الرجلان على تجاوز القضايا الصغيرة بما في ذلك منطقة حلايب التي ينبغي التعامل معها برؤية ثاقبة.. وإعلاء لمصالح الشعبين.. فالمشكلات الحدودية انقضى عهد حلها بالقوة العسكرية.. ونحن في زمانٍ تلاشت فيه الحدود وذابت الفوارق.. وأصبحت أوروبا كلها دولة شبه موحدة، فلماذا الخلاف والصراع حول مثلث صحراوي لا يضيف لمصر شيئاً ولا ينتقص منا إلا بضعة كيلو مترات، ولذلك تبقى “حلايب” منطقة تكامل لا تنازع في المرحلة القادمة.

المجهر