تحقيقات وتقارير

“التمباك” في السودان.. تجارة مزدهرة رغم مخاطر السرطان


في كل مرة يحاول الشاب السوداني، محمد مختار، الإقلاع عن تعاطي “التمباك”، سرعان ما يفشل ويعود إلى تعاطيه مرة أخرى، ما يجعله واحداً من بين 24% من جملة سكان المدن السودانية ممن يتعاطون التبغ الشعبي السوادني، على الرغم من دراسات طبية متخصصة أكدت أن التمباك مسبب رئيسي لسرطانات الفم واللثة، كما يؤكد عميد كلية طب الأسنان في جامعة الخرطوم الدكتور يوسف عثمان يوسف.

وتبلغ نسبة متعاطي التمباك المعروف أيضا بـ “السعوط” أو “السفة”، في القرى السودانية 32 % من بين قاطنيها، وتصل النسبة وسط المراهقين إلى 25 % وبلغت نسبة المتعاطين بين المساجين 78% وفقاً لدراسة أجرتها كلية طب الأسنان في جامعة العلوم الطبية بالسودان في عام 2014، ووفقاً للدراسات الطبية السودانية فإن التمباك يحتوي على 28 مادة مسرطنة، أكثرها ضرراً هي نيترسامينات التبغ التي تتشكل أثناء تحضير وتخمير التمباك، كما يحتوي على البينزوبيرين، الكورتونلديهيد، الفورمالديهيد، والأسيتلديهيد (مادة مهيجة)، هيدرازين، النيكل، الكادميوم، وغيرها من العناصر السامة التي تهدد حياة متعاطيه كما يؤكد عميد كلية طب الأسنان بجامعة الخرطوم، موضحاً أن النيكوتين الذي يمتصه الجسم من التمباك بثلاثة أضعاف عن نظيره الممتص عند تدخين السجائر.

انتشار زراعة التمباك في درافور


تعد ولاية شمال دارفور الموطن الرئيسي لزراعة التمباك وإنتاجه، وتحديداً في مناطق “طويلة” و”شنقلي طوباي” بولاية شمال دارفور، فيما تتم زراعته بصورة أقل في مناطق مورني بغرب دارفور، وفي الجزء الشمالي من ولاية جنوب دارفور ووفق ما أكده وزير الزراعة بولاية شمال دارفور، آدم النحيلة.

وأضاف النحيلة في تصريحات خاصة لـ”العربي الجديد”: “مزارع التمباك تغطي ما يقارب نصف مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في شمال دارفور، حيث تشغل حوالي 2500 فدان من جملة سبعة آلاف فدان صالحة للزراعة. ولا ينمو التمباك إلا في التربة الطينية، التي تتوفر في الوديان ويعتبر التمباك من المحاصيل التي لا تتأثر بالآفات الزراعية، كما يعد المحصول الوحيد المقاوم للجفاف والتصحر بولايات دارفور.

وتابع قائلا: “سكان المنطقة يعتمدون على التمباك، بشكل كلي في حياتهم، ويعتبرونه المحصول الرئيس للمنطقة، خاصة في ظل عدم وجود أي مشاريع تنموية تستوعب شباب وسكان الولاية وتدر عليهم دخلاً معقولاً”.

ويؤكد مزارعون أنهم يجمعون أوراق التمباك ويضعونها في مكان جيد التهوية ويتم تجهيزها ووضع إضافات عليها حتى تجف وترسل للتجار الذين يقومون بتخمير التمباك بعد نقعه في ماء مخلوط بـ”العطرون” (مادة قريبة من كربونات الصوديوم)، وبعد عملية التخمير التي يطلق عليها “التمطير”، يتم بيع التمباك إلى الزبائن، والذين يتناولونه عبر وضع قطعة صغيرة منه ما بين الفك والشفاه ثم يبصقونها.

بورصة التمباك

باعتباره المحصول الاستراتيجي الأول في دارفور، تم إنشاء بورصة لشراء وبيع محصول التمباك، في مدينة الفاشر (عاصمة ولاية شمال درافور) في ثلاثينيات القرن الماضي. ووفق القانون المتعارف عليه في الفاشر، لا يحق لأي مزراع بيع محصوله من التمباك خارج تلك البورصة، كما يؤكد الرشيد مكي، رئيس اتحاد تجار التمباك في ولاية شمال دارفور.

ووفقا لمكي فإن بورصة التمباك، تستقبل خمسة ملايين قنطار من التمباك، خلال الموسم الواحد، ويبلغ سعر القنطار الواحد درجة أولى، حوالي 2100 جنيه، أي مايعادل 387 دولاراً.

وبحسب مكي، فإن أكبر مراكز تخزين التمباك، تقع في مدينة أم درمان غربي العاصمة الخرطوم، إذ تحتل مخازن التمباك مساحة واسعة من السوق، تفوق مساحة استاد الخرطوم، وتتوزع المخازن داخل “حيشان” لها أبواب ضخمة تسمح بمرور الشاحنات المحملة بكميات كبيرة من جوالات التبغ، كما رصدت معدة التحقيق، خلال جولة ميدانية في السوق، الذي لا تتوقف الحركة الدؤوبة فيه من قبل المئات من العمال ليل نهار، كما تبدو مظاهر الثراء على كبار التجار وأصحاب المخازن، إذ تتزاحم موديلات حديثة لسيارات فخمة، في الشوارع الفرعية المؤدية إلى مكاتب ملاك المخازن، جيدة التأثيث التي تبدو على معالمها ثراء مالكيها.

وقود الحرب

تعرضت إحدى شحنات التمباك المملوكة للتاجر الدارفوري محمد حامد، إلى السرقة من قبل المجموعات المسلحة المتمردة، التي اعترضت السيارات المحمّلة بجوالات التمباك وهي في طريقها إلى أسوق العاصمة، واستولت عليها تحت تهديد السلاح. ويؤكد حامد أن الحركات المسلحة تبيع شحنات التمباك في ليبيا، وهو ما نفاه رئيس حركة العدل والمساواة جبريل ابراهيم والذي تنتشر قوات تابعة لحركته على الحدود الليبية السودانية.

ويرى إبراهيم أن الحكومة السودانية، تفرض ضرائب باهظة على زراعة وتجارة التمباك، مبرراً تقلص المساحات المزروعة في دارفور، بسبب شح الأمطار، على حد قوله.

ويؤكد المزارع اسحق عبدالله، بأن أعدادا كبيرة من سكان قرى دارفور من العاملين في زراعة التمباك اضطروا إلى النزوح وترك أماكن الزراعة نتيجة لشح الأمطار، ويضيف في حديثه لـ”العربي الجديد”، نتعرض كثيراً لاعتداءات الرعاة “الأبَّالة”، إذ يدخل هؤلاء إلى المزارع بمواشيهم ويفسدون الزرع، وكل من يعترض طريقهم لا يترددون في الاعتداء عليه. ويتابع: “راح عددٌ من المزارعين ضحية تلك الاعتداءات”.

ضوابط للحد من انتشار التمباك

تؤكد وزارة الصحه السودانية، عدم صدور قانون يمنع تعاطي وتجارة “التمباك” لدواع صحية، ووفقاً لمصدر بإدارة التبغ في وزارة الصحة، فإن الوزارة ألزمت جميع محلات بيع “التمباك”، بوضع تحذير مكتوب بخط واضح عن مضار تعاطي التمباك، يحمل عبارة: “التمباك سببٌ رئيسي للإصابة بالسرطان”، واشترطت وضعه في مكان بارز أعلى المحل، كما ألزمت الضوابط متعاطي التمباك بعدم تعاطيه في الأماكن العامة والمركبات، وعدم رمي مخلفاته المعروفة بـ”السفّة” في تلك الأماكن.

وتحتل ولايات شرق السودان المراكز الأولى لأكبر نسب متعاطي ومستخدمي التمباك بين ولايات السودان، إذ تبلغ نسبة المتعاطين فيها (98 %)، وفقاً لإحصاءات مستقاة من دراسة لمركز أبحاث التمباك ومكافحة سرطان الفم بالخرطوم، وتأتي بعدها ولاية الخرطوم بـ (88 %)، ثم الجزيرة (86 %)، والشمالية (70 %)، وولايات دارفور وكردفان (65 %)، بينما لم تكن ولايات جنوب السودان (قبل الانفصال)، تستهلك سوى (40 %) من اجمالي التمباك السوداني.

مخاوف من وقف تجارة التمباك

يخشى تجار التمباك بالسوق الشعبي في مدينة أم درمان، منع تجارتهم من قبل السلطات الصحية باعتباره أحد مسببات سرطان الفم واللثة. ويتهم إبراهيم محمد، عضو اتحاد تجار التمباك، الحكومة باستهدافهم، من خلال الرسوم والجبايات الكبيرة التي تفرضها على تجارة “التمباك”، بدايةً من مزارعه في دارفور، وحتى محلات بيعه الفرعية بالعاصمة والولايات، إذ تُفرض عليها رسوم تجارية عالية وصفها إبراهيم بأنها تفوق رسوم أية سلعة تجارية أخرى في السودان، وتتراوح قيمة رسوم الرخصة التجارية لمحلات بيع التمباك بالتجزئة، ما بين 5 آلاف جنيه (775 دولاراً) إلى 7 آلاف جنيه (1087 دولاراً) وتزيد أو تقل قليلاً بحسب الموقع الجغرافي للمحل، وتحصّل المحليات كذلك مبلغ ألفي جنيه سنوي عن كل مخزن أي نحو 310 دولارات، فضلاً عن رسوم شهرية مختلفة، كرسوم للمحلية تبلغ نحو 250 جنيها (38 دولاراً)، و110 جنيهات (17 دولاراً) رسوم نفايات. وحسب عضو اتحاد تجارة التمباك فإن عملية زراعة التمباك وتجارته، يعمل بها قرابة مليون شخص من أهالي دارفور الذين يفوق عددهم المليونين.

غير أن حكومة شمال دارفور لا ترى أية مغالاة في الرسوم المفروضة على التمباك، وتعتبره مثله مثل أي سلعة أخرى. وأكد وزير المالية بحكومة الولاية الدكتور محمد يحيى، أن نسبة دعم تجارة التمباك لخزينة وزارته ليس كبيراً، قائلا لـ”العربي الجديد”:”كل ما يعود منها على الخزانة، مجرد رسوم عادية لا تتعدى بضعة جنيهات للقنطار الواحد”.

وفي حديث لا يخلو من تناقض واضح، اعتبر الوزير أن تجارة التمباك قد تؤثر بالفعل على ميزانية الولاية إذا تم إيقافها نهائياً، إذ لا بد من إيجاد بدائل لها في الميزانية. مضيفاً أنهم لا يفرضون زيادات على رسوم التمباك إلا بعد التفاوض مع كبار تجاره ومنتجيه.

أما في ولاية الخرطوم، فإن عائدات تجارة “التمباك” تقدر بحوالي 30 مليون جنيه (465 ألف دولار) عبارة عن ضرائب وتراخيص وعوائد ورسوم خدمات أخرى، بحسب دراسة أعدها “اتحاد تجار التمباك” ودفع بها لحكومة ولاية الخرطوم حتى تدرك تأثير تجارة التمباك على ميزانية الولاية، بعد تلويح وزير الصحة بولاية الخرطوم مأمون حميدة، قبل عام ونصف العام بإصدار قرار بمنع تناول التمباك. ويقدر عدد محلات التجزئة لبيع التمباك بولاية الخرطوم وفق الدراسة السابقة، بـ 1300 دكان، يعمل فيها حوالي ستة آلاف عامل، بينما يصل عدد المخازن الكبيرة إلى 300 مخزن، يعمل بها أكثر من ثلاثة آلاف عامل في الشحن والتفريغ والتعبئة، الأمر الذي يحتاج إلى روية في معالجة قضية التمباك، لإيجاد بدائل توفر للعاملين حياة كريمة، وتمنع اقتصاد دارفور من الانهيار.

الخرطوم – مي علي

العربي الجديد