سياسية

علي عثمان ومُراجعات المشروع الحضاري


النائب الأول لرئيس الجمهورية السابق “علي عثمان محمد طه” شرع في إجراء مراجعات شاملة للمشروع الحضاري للإسلاميين منذ تقلدهم الحكم قبل (25) عاماً بمشاركة خبراء في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتنظيمية.

وقد سارع بعض الإسلاميين، ومنهم الأستاذين أبوبكر عبد الرازق وفتح العليم عبد الحي، بإنتقاد خطوة طه بإعتبار أنَّ الرجل “لم يكن في يوم من الأيام صاحب مبادرات”، وأنه “رجل سياسي تنفيذي أكثر من أنه مفكر سياسي” وتوقعوا أنَّ مراجعاته لن تلامس جذور القضية ولن تختلف عن تلك التي أجراها المؤتمر الوطني بشأن الإصلاحات.

أمَّا نحن، فنقول إنَّ الأمر لا يحتاجُ لجيشٍ من الخُبراء والمتخصصين بقدر ما يحتاج لنوعٍ من “الإرادة” و “الإستقامة الأخلاقية” في مواجهة الحقائق، فقد أدمن أهل الحكم والقائمين على الأمر بذل الوعود الجُزافية بالتغيير والإصلاح دون أن يُصاحب ذلك أفعالٌ جادة، والأستاذ علي ليس إستثناءاً من هؤلاء، فقد كان بشَّرنا بعد إنفصال الجنوب بمولد “جمهورية ثانية” تسودها الحرية والعدل ولكننا نر لها أثراُ حتى اليوم !

إنَّ أزمة الجماعة الحاكمة في جوهرها أزمة بنيوية تتولد عن التصورات والمفاهيم والعقائد (الآيديولوجيا) وتتجلى أكبر مظاهرها في “الإقصاء” النابع من التأصيل الفكري الذي ينبني على مظنة إمتلاك الحقيقة المُطلقة والذي يؤدي في خاتمة المطاف لتبني “العنف” كوسيلة وحيدة لإدارة الإختلاف والتنوع.

في هذا الإطار وقعت تحت سمع وبصر وربما إشراف الأستاذ علي أحد أكبر خطايا المشروع الحضاري “برنامج التمكين” الذي تم بموجبه فصل آلاف المواطنين من وظائفهم لا لشىء سوى أنهم لا ينتمون للجماعة الحاكمة، وصار الولاء للتنظيم والسلطة معياراً لقياس “الإنتماء للوطن” وأُستبيح جهاز الدولة ومواردها بالكامل لمنسوبي الحزب.

قد تولى الأستاذ علي أخطر الوزارات التي أنشأتها حكومة الإنقاذ في سنواتها الأولى لتصبح أداتها الرئيسية لتطبيق الشعار الغريب “إعادة صياغة الإنسان السوداني”، وكأنَّ هذا الإنسان مُجرَّد صفحة بيضاء بلا تاريخ أو تراث أو هويَّة، وهى وزارة التخطيط الإجتماعي، و كان هدف الوزارة هو ضمان ولاء الناس للمشروع الآيديلوجي للجماعة.

قد عمدت تلك الوزارة إلى فرض رؤية “أحادية” في بلدٍ سِمتهُ الأساسية “التنوَّع”، رؤية محورها “المشروع الحضاري” وتحوَّلت برامجها – مع سياسات حكومية أخرى – لوسيلة إستمالة وأداة إستقطاب لقيادات القبائل وشيوخ الطُرق الصوفيَّة لصفوف الحكومة، فإنتهى الحال إلى إضعاف الشعور الوطني بصورة غير مسبوقة.

وكذلك فإنَّ أحد مظاهر الأزمة يتجلى في ضبابية وغموض شعار “المشروع الحضاري” وعدم إشتماله على معايير قابلة للقياس أو مضامين تؤشر للتقدم والنهضة وإكتفائه بالإحتفاء الشكلي بمظاهر الدين دون الولوج لجوهره وغاياته المنشودة.

إنَّ أكثر من عبَّر عن هذا النزوع الشكلاني “للمشروع الحضاري” هو القيادي بالحركة الإسلامية الأستاذ عباس الخضر عندما سُئل عن ماهية ذلك المشروع فأجاب بالقول (عندما جاءت الإنقاذ كان هنالك 800 مسجد بالخرطوم والآن يوجد 15 الف مسجد وكانت صلاة القيام وقراءة القرآن في مسجد أبوبكر الصديق فقط وبعضهم يذهب لشيخ العباس في توتي ومساجد العاصمة كلها الآن تصلي القيام وبجزء كامل والزي نجد أن الحجاب إنتشر والإعلام التلفزيون السوداني الان يسمى القناة الطاهرة ).

إجابة الأستاذ عباس تعكسُ بوضوح الإتجاه المظهري “للمشروع الحضاري” حيث يتم التركيز على بناء المساجد دون الإهتمام بأثرها في نفوس الناس وسلوكهم، فالمراقب المحايد يلحظ بوضوح التناسب العكسي البائن بين إزدياد عدد المساجد و تراجع الأخلاق العامة والخاصة. صحيح أنّ الناس باتوا يتزاحمون على الصلاة والسفر لأداء “الحج والعُمرة” إلا أنَّ ذلك لم يمنع الإنتشار غير المسبوق للرشوة والفساد و الكذب والنفاق في المُجتمع، ولم يحُل دون إنتشار الجريمة والمخدرات بصورة كبيرة ومخيفة.

إنتشار الحجاب كذلك لم يفعل شيئاً تجاه تدفق مئات الأطفال الرُّضع لدور رعاية الأطفال مجهولي الأبوين، ولم يمنع الزواج العرفي، ولم يوقف الكثير من الفظائع الأخلاقية التي تمتلىء بها دفاتر شرطة أمن المجتمع.

أمَّا حصاد “المشروع الحضاري” في ما يلي الرافعة الحقيقية للحضارة – العلم والمعرفة، فقد تمثل في إرتفاع نسبة الأميِّة في البلاد من 37 % الى 57 %، مع ارتفاع نسبة الأمية وسط المرأة الى 72 %، إضافة إلى إرتفاع عدد اليافعين واليافعات الذين يُعانون من الأمِّية في سن المدرسة إلى ثلاثة ملايين ومائة وخمسة وعشرين ألف بحسب إحصاءات المجلس القومي لمحو الامية وهى إحصائيات مُحافظة بدرجة كبيرة !
دولة المشروع الحضاري تنفق 2% فقط من ميزانيتها على التعليم !

كذلك فإنَّ الدولة التي رفعت شعار” نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع” وجدت نفسها بعد سبعة وعشرين عاماً من السيطرة على الحكم تستورد 84% من إجمالي إستهلاكها السنوي من القمح والبالغ 2.2 مليون طن.

وفقاُ لهذه المُعطيات والأرقام يُصبح من العسير جداً الحديث عن مشروع حضاري، فالحضارة تُشيِّد بُنيانها على المعرفة والعلم، وتُعزِّز وجودها بالكشوف والإبتكار والإنتاج، وتستديم بقاءها بقيم الحُرية والعدالة.

إنَّ الفشل العظيم الذي أصاب المشروع الحضاري لم ينتج عن سوء تطبيق الأفكار بل كان وليد الأفكار المعطوبة نفسها، فالمشروعات الرسالية بطبيعتها الآيدولوجية لا تكترثُ للواقع بل تتعالى عليه. وقد كتبت في السابق مُحللاً طبيعة هذا المشروعات والتفويض الذي تنطلق منه : مجال التفويض في المشروع الرسالي ينتقل من الأرض (البشر) الي السماء (الله)، ومعهُ تتحوَّل الدولة من دولة واقعية إلي دولة ذات أهداف كونية.

وعي الدولة الرسالية في جوهره وعيٌ زائف لكونه يتفتق عن وهم، وهمٌ يُغيِّب العقل وما هو ممكن لصالح العاطفة و ما هو مرغوبٌ فيه، وتكمن خطورة هذا الوهم في عدم إكتراثه بالتفكيرالإستراتيجي وفي رفعه سقف الطموحات لدى القائمين على أمر الدولة الرسالية وبما لا يتناسب مع الإمكانيات المتاحة والظروف الخارجية المحيطة بتلك الدولة، وهو في محصلته الأخيرة مشروع دائم ومفتوح للتوريط وخلق الأزمات.

الوعي الزائف هو الذي حمل أصحاب المشروع الحضاري على رفع شعارات غير واقعية تدعو لحرب أمريكا وروسيا في آن واحد، وأوهمتهم بأنَّ السودان سيقود العالم الإسلامي في معركته ضد الغرب، فماذا كانت النتيجة ؟ أزمات سياسية وإقتصادية يأخذُ بعضها بتلابيب بعض، و ضياعُ ثلث الأرض والسكان، وإستحكام عزلة دولية خانقة ما زالت الحكومة تسعى للفكاك منها دون جدوى.

أحد أخطر تجليات المشروع الحضاري تمثلت في تبنيه لأفكار أممية عابرة لحدود الوطن هدفها الغائي هو بلوغ مرحلة “أستاذية” العالم مما أدى لإضعاف وربما تغييب فكرة “الولاء الوطني”، فمناهج التعليم تثبت في أذهان الطلاب أنَّ “وطن المسلم هو دينه”، بل أنها في كثير من جوانبها تضم مواداً ونصوصاً تتناقض مع مبدأ “المواطنة” الذي يمثل حجر الزاوية في بنيان الدولة الحديثة.

إنَّ فكرة “الوطن” نفسها ظلت مُلتبسة وغير واضحة في أذهان القائمين على أمر المشروع الحضاري فهو مشروع يُعلي من شأن “أخوة العقيدة” و “أخوة الجماعة” وإن تعارضت مع المصلحة الوطنية، وليس أدلَّ على ذلك من فتح أبواب البلد على مصراعيها لجميع الحركات المتطرفة في تسعينيات القرن الفائت ؟ وكذلك إفتعال المشاكل مع دول الجوار بحُجة أنهم يضطهدون المسلمين والجماعات الإسلامية.

قد إعترف مدير جاهز الأمن السابق “صلاح قوش” بالأثر السلبي الخطير للفكرة الأممية على المصلحة الوطنية وقال في برنامج “حتى تكتمل الصورة” أنَّ الإنقاذ حملت معها تفكيراً خاطئاً وسالباً منذ يومها الأول مما جعلها تُعادي جميع جيرانها وأضاف ( كان من الممكن أن نأتي ومعنا أصدقاءنا ونحارب أعداءنا ولكننا أتينا من أول يوم وأعداءنا في جيبنا ووحدنا أخرجناهم وبدأنا نحاربهم قبل أن يحاربونا وهذا ما أدخلنا في مشاكل ما تزال مستمرة حى اليوم ).

لقد أشرتُ في العديد من المناسبات إلى أننا بلدٌ مُتعدِّد الهامشية، فبالإضافة لهامشيتنا بالنسبة للعالم العربي والعالم الأفريقي، نحن كذلك هامشيون بالنسبة للعالم الإسلامي. إنَّ بلدنا لم يك في يومٍ من الأيام مركزاً للحضارة و للدولة الإسلاميَّة. نحن لسنا “دمشق” الأمويين ولا “بغداد” العباسيين ولا “قاهرة” الفاطميين ولا حتى “إسطنبول” العثمانيين، وكل هذا يجعلنا في حِل عن تلبُّس الحالة المركزية وتبعاتها. لقد قدَّمت لنا “الجُغرافيا” هدية قيِّمة بإعفائنا من عبء “التاريخ” فلماذا نتبنى مشاريع أممية أكبر من قدراتنا ؟

قد أدت الرؤية الأحادية الإقصائية التي تبناها المشروع الحضاري إلى خلق دولة شمولية قابضة تحتمي بالشعارات الدينية، ومعلومٌ أن الإستبداد عندما برتبط بالدين فإنه – كما يقول الكواكبي – يُمثل أعظم بلاء، لأنَّه ( وباءٌ دائمٌ بالفتن وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي).

لكل هذه الأسباب فإننا نقول للأستاذ علي عثمان إنَّ أية مراجعة للمشروع الحضاري لا بُدَّ أن تطال المنظومة الفكرية والمنطلقات الأساسية ومناهج التربية الداخلية للجماعة وإلا فإنها لن تؤدي لشيء سوى “إعادة إنتاج الفشل”، وإنَّ أية إتجاه لتحميل المُجتمع الدولي مسئولية الإخفاق الذي أصاب ذلك المشروع لن تكون إلا محاولة للهروب إلى الأمام.

إنَّ الخطوة الأولى في سبيل المراجعات الحقيقية تتمثل في إدراك الحقائق كما هى وإجتياز عقبة الإنكار، والإعتراف بالإخفاق، وكلها فضائل يحُثُّ عليها ديننا الحنيف. ودون ذلك سنظلُّ ندورُ في ذات الحلقة المُفرغة.

المشاريع الحضارية لا تتأسس على القمع والإقصاء وفرض الوصاية على الناس وإهدار كرامة المواطن، وهى ملامح الإستبداد بمختلف مسمياته القومية والدينية والأممية، وإنما تنهضُ بتأسيس النظام الديموقراطي الذي يوفر الحريَّة والشفافية وحقوق الإنسان.

وكذلك فإنَّ مطلب الحرِّية و الديموقراطية المرغوب فيه والمنشود مطلبٌ كامل غير قابل للتجزئة والترقيع، ولن يُجدي أن يكون على طريقة الهوامش ( هامش الحرية السياسية، وهامش الحرية الإعلامية، الخ ).

وكما ذكرتُ في صدر المقال فإنَّ المشاكل وأوجه الفشل التي مُنى بها المشروع الحضاري باتت معروفة و واضحة ولا تحتاج لخبراء ومتخصصين بل تتطلب توفر قدر كبير من الإرادة والإستقامة حتى يتم تجاوزها.

سودان تربيون


‫3 تعليقات

  1. رايك شنو يا شيخ علي نغني ليك ” بعد إيه”؟؟؟؟ انصحك لوجه الله حافظ على صورتك العند المواطنين بأنك نزيه وحكيم وابعد من الناس ديل.