منوعات

كيف خدعت بريطانيا شعبها للتغلُّب على المجاعة؟.. هذه قصَّة الفطيرة التي ربحت الحرب العالمية الثانية


كان خريف عام 1941 أحلك الأوقات التي مرت على بريطانيا. وقف شعب الجزيرة وحده. كان هتلر قد غزا أوروبا ولم تكن الولايات المتحدة قد اشتركت في الحرب بعد. كانت استراتيجية النازيين لتركيع البريطانيين بسيطة: تجويعهم.
واجه ونستون تشرشل، رئيس الوزراء، واقعاً أليماً: لم تكن ساحة المعركة، التي ستحدّد ما إذا كانت بريطانيا ستنجو أم لا، على الأرض أو في الهواء، بل في المحيط الأطلنطي.
تقلّصت الإمدادات الغذائية للبلاد إلى النصف. يسقط كل شهر نصف مليون طن من المواد المشحونة إلى أعماق الأطلنطي، حيثُ تجهز عليها هناك الطوربيدات الآتية من سفن U-boat الألمانية التي تصطاد القوافل الآتية من أميركا الشمالية، وكانت الإمدادات الأساسية مثل القمح واللحم تمثِّل معظم ما تحمله تلك الشحنات.
كتب تشرشل “إن هذا الخطر الفتّاك الذي يحيق بحبال نجاتنا يقضم أحشائي”.
اكتشاف الفطيرة
يمضي كليف إيرفينغ وهو كبير مستشاري التحرير في مجلة Conde Nast Traveler المتخصصة في الطيران، في مقاله المنشور بموقع The Daily Beast بتاريخ 8 أكتوبر 2016:
مثل معظم البلاد في ذلك الوقت، قبل 75 عاماً، لم أكن على دراية بعِظَم ذلك الخطر؛ أدرك تشرشل أن الكشف عن ذلك من شأنه أن يُضعف الروح المعنوية.
لكنني مع ذلك أدركت أن هناك خطأ ما في الكواليس. كان لدى أمي مخزونٌ كبير من الأطباق الإنجليزية الشهية وعلى رأسها طبق بودنغ اللحم والكلى الشهية. عند ثقب قمة العجين المطهية بالدهن باستخدام الشوكة يندفع بخار بنكهة كلى الماشية مثل ثوران بركان فيزوف النشط.
لم يكن به أي شيء مُثير للشكوك. كان عبارة عن فطيرة مستديرة في طبق مع قشرة من البطاطس المحمرة. بإجراء فحص سطحي للطبق فقد حمل وعداً بأن يكون فطيرة راعي الغنم الغنية بلحم الضأن المختلط بالأعشاب والتوابل.
إلا أن الحظ لم يكن جيداً.
سلاح قوي
كنت أشارك في تجربة أداء نظام غذاء طوارئ جديد وسُمّي أول تجسيد له “فطيرة وولتن”، تيمُناً باسم وزير الغذاء، لورد وولتن، وهو سلاح الحرب الرابح الذي لم تسمع عنه أبداً. كان كل شيء تحت قشرة السطح عبارة عن هريسة ذات لون بني فاتح. في حقيقة الأمر، كان خليطاً من اللفت والجزر والقرنبيط ودقيق الشوفان.
بدَت وكأنها فطيرة لحم لكنها لم تحتوي على اللحم؛ لقد كانت احتيالاً. طلب وولتن (كان المدير العام لسلسلة متاجر بالتجزئة ناجحة قبل أن يُعينه تشرشل وزيراً) من الشيف العامل بواحد من أعرق فنادق لندن، the Savoy، أن يخرج عليهم بوصفة من شأنها أن تستبدل الخضروات الجذرية المزروعة في بريطانية باللحم المستورد.
فعلت أمي ما بوسعها لتعزيز تلك التجربة. ونجحت في إعداد مرقة مصنعة؛ بدلاً من اللحم، فاستخدمت مادة داكنة مستخلصة من خميرة البيرة، البهار المُسمى Marmite الذي يحبه ويكرهه الناس على السواء، والذي يشبه مذاق لحم البقر.
كان الواقع أنه لن يكون هناك المزيد من بودنغ اللحم والكلى (أو الفطيرة) أو أي شيء يدعو إلى الاستخدام المفرط للّحم والأحشاء. كان اللحم جزءاً من نظام الحصص الغذائية على أساس النقاط. كان استخدام نظام النقاط يقضي بأن وزن شراء اللحم يعني ألا تحصل على أي مكونات أساسية أخرى. وكان القدر الأسبوعي المسموح به من هؤلاء صغيراً بما يكفي: بيضة، و2 أونصة من الزبدة، و4 شرائح من لحم الخنزير المقدد، وضمنت تلك الندرة أن يصبح اللحم رفاهية نادرة.
الفطيرة الرسمية للحرب
أعلن وولتن أن ذلك هو “طعام الحرب”. وإذا سمحنا بقليل من المبالغة يمكن لنا أن نقول بأن وولتن قد صنع فطيرة ربحت تلك الحرب. مثّلت الفطيرة الصورة الرمزية – النموذج الذي من شأنه أن يُبنى نظام غذائي كامل عليه، وكما اتضح لاحقاً، كان نظاماً غذائياً ربح الحرب من ناحية مسألتي النجاة والصحة العامة.
لم يشعر أي شخص بالجوع. ليس ذلك فقط، بل ثبت أنه نموذج لتوعية غذائية أفضل. فوفقاً لمؤسسة التغذية البريطانية، أصبح الناس في نهاية الحرب يتمتعون بصحة أفضل مما كانوا عليه قبل الحرب. تقلّص معدل وفيات الرُضع وزاد متوسط العُمر المتوقع.
صنّف المؤرخون وولتن باعتباره أكثر وزير ناجح من بين وزراء تشرشل على الجبهة الداخلية، وأهميته في الانتصار تُعادل أهمية أفضل جنرالاته في ساحة المعركة. لكن ما يخص الناحية العلمية للنظام الغذائي التقشفي الجديد كانت مهمة أحد خبراء التغذية، جاك دروموند. كتب دروموند وزوجته دراسة نقدية للنظام الغذائي الوطني، طعام الرجل الإنجليزي.
“طعام الرجل الإنجليزي”
وصف أحدهم مطعماً من زمن الحرب: “كان آلاف البشر يأكلون وجبة ضخمة ذات لون بني فاتح، تبدأ بحساء ذي لون بني فاتح سميك يشبه لون العجينة، متبوعاً بلحم مفروم مليء بالكتل ومزخرف بحبوب وقطع بطاطس قليلة ذات لون بني فاتح، وحساء تفاح خفيف..”.
وبتلك الطريقة أكلت الجماهير بصورة جماعية، وأشاد المؤيدون بالخطوة باعتبارها نظام إنصاف عظيم – لأن كل الطبقات من أعلاها لأدناها كانت تأكل من نفس الطعام.
كان الأمر حقيقياً بشكل جزئي فقط. فالصيد،على سبيل المثال، لم يُقنن إطلاقاً وهؤلاء الذين امتلكوا القدرة على الصيد، وهم مُلاك عقارات ضخمة في البلاد، كان لديهم كذلك اكتفاء ذاتي بطرق أخرى مع الكثير من الخضار المخزنة في المطبخ وأقبية نبيذ مخزنة بعناية. كان هذا الفارق جلياً للمُلحق العسكري الأميركي، الجنرال رايموند لي، عندما تناول الغداء في مقر مقاطعة مع جنرال بريطاني في خريف عام 1941 و”قُدم له زوج من العصافير الشهية وفطيرة تفاح لذيذة”. ترصد مذكرات لي الكثير من وجبات الغداء والعشاء الغنية بالسعرات الحرارية مع الطبقة الحاكمة في غرف الطعام الواسعة لفنادق لندن.
ربَّ ضارة نافعة
كان الأثر الأكثر دواماً، مع ذلك، هو صحة النظام الغذائي المتبع في الحرب. لقد حدث وأن كانت بريطانيا، ولأسباب جغرافية، مقطوعة عن مصادر أكثر مجموعتين ضارتين في الأطعمة: السكريات والدهون. تصادف كذلك أن مكونات الخضروات الجذرية مليئة بالألياف، والأمر نفسه سرى على حيلة أخرى لوولتن، “الخبز الوطني”.
ترعرع الناس في ثلاثينيات القرن الماضي وهم معتادون على الخبز الأبيض الذي يُنتج بكميات هائلة باستخدام الطحين الأبيض. كان ذلك استخداماً مُبذراً للطحين، فمنع وولتن الخبز الأبيض. احتوى الرغيف الذي قدّمه على ما نسبته 85% من طحين القمح مع إضافات من الكالسيوم والفيتامينات. كان داكناً وذا نسيج كثيف مع صوت ثقيل يُحدثه على الطاولة، لكن لم يكن لدى الناس خيار آخر. علاوة على ذلك، فقد كان جيداً لهم.
في الأيام الحالية، لن ينتهي الأمر بإخبارك للناس بما هو جيد لهم حتى وإن بدا مُفيداً بالفعل. هناك حرب طعام جديدة مُشتعلة في بريطانيا، وهي نتيجة لكثرة توافر المواد، لا قلتها: الحرب على السمنة. في الـ 25 عاماً الأخيرة، تضاعفت معدلات السمنة لدى البالغين 4 مرات تقريباً، وتشخص العيادات نسبة 62% من البالغين يعانون من وزن زائد. 17% من الأطفال يعانون السمنة. وتُعد السمنة أحد الأسباب الرئيسية لحالات الوفاة التي يُمكن تفاديها.
يتبع ذلك الأمر النمط الأميركي، حيثُ يوجد 78 مليون بالغ و12 مليون طفل مُصابون بالسمنة.
تجربة قد يصعب تطبيقها حالياً
بالطبع، لم يعُد بالإمكان فرض نُظم الغذاء على المستوى الوطني. يُعد إنكار الأمور السيئة وتوفير الجيد منها كالسياسة العامة والواجب المدني من الأمور التاريخية. الدعاية تقهر التعليم. أصبحت الأطعمة السريعة والمشروبات السكرية الآن إدماناً عالمياً يتسبب في خلق أوبئة عالمية.
هنا، تُعيد إدارة الغذاء والدواء مُجدداً مناقشة معاييرها للنظام الغذائي الصحي، وتطلب من العامة إبداء الرأي “للتأكد من أن يظل تعريف المعايير الصحية مواكباً للعصر”. على سبيل المثال، تُريد إدارة الغذاء والدواء مزيداً من التركيز على نوعية الدهون بدلاً من كميتها. بالأخذ في الاعتبار حجم المشكلة، تبدو تلك الحلول المزيفة بعيدة المنال بحسب هافيغنتون بوست.

مزمز