داليا الياس

ضحايا على مقاعد الدراسة


غيّب الموت بالأمس طالب أساس بمنطقة أم درمان، وذلك على أثر قيام المعلم بالاعتداء على التلميذ بالضرب؛ مما أدى إلى نقله لحوادث الخرطوم بحري، حيث ظل التلميذ فاقداً للوعي قرابة الشهر وسط رعاية طبية وحزن مقيم وسط أفراد أسرته، وبالأمس توفي الطالب إلى رحمة مولاه ليتم تحويل الجثمان إلى مشرحة أم درمان ليقوم الطبيب الدكتور جمال يوسف بتشريح الجثمان، وأكد بأن سبب الوفاة انهيار المخ!!!!)
وصلني الخبر مرفقا بصورة الطالب المتوفى رحمه الله وهو في ريعان صباه.. بهي الطلعة.. وضيء الابتسامة.. تضج عيناه بالأمل والحماس والحياة!
وجدتني _ بأمومتي الفطرية _ أذرف دمعا سخينا ووجه ابني (محمد) حفظه الله يتراءى لي في تلك الصورة.. وتتوارد في خاطري الأم المكلومة وما هي عليه الآن من وجع وغبن وحسرة.. وقدرت لو أنني كنت في مكانها فكيف كان سيكون حالي وما هي ردة فعلى المفترضة؟
هل سيجن عقلي وأتمرغ في تراب الطرقات وأنوح راغبة في الثأر؟.. أم سأحتسبه شهيدا وألزم الصبر والرضا وأطوي صدري على غبنه وألهج له بالدعاء؟
أسأل الله لها ولي ولكل الأمهات الخيار الأخير حالما أصاب فلذات أكبادنا سوء لا قدر الله.. ولكنه أمر لو تدركون عسير.. يلزمه إيمان راسخ ويقين باذخ يختص به الله الاتقياء الأصفياء من عباده.
ثم هل يتوافق ذلك الصبر مع ضرورة العفو والتنازل عن حق الفقيد؟!. أعلم أن: “فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله”، ولكني أعلم بالمقابل أن: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ”.. فما هو مصير ذلك المعلم الذي لا يمت بالتعليم بصلة ولا للإنسانية حتى؟!!
لقد كنت دائما أؤمن بضرورة وجود العقاب في أجندات المدارس لاستكمال الدور الرسالي التربوي. وحين كان الناس ينادون بمنع الضرب تماما في المدارس كنت أتحفظ حرصا على هيبة العلم والمعلم وتعويلا على يد العون التي يساهم بها الردع المدرسي في مساعدتنا على تقويم أبنائنا وتوجيههم وتهذيب نفوسهم إذ أننا أرسلناهم إلى دور العلم والتربية ليعودوا بالمعرفة والإدراك والأخلاق ولم نرسلهم للصناديق القتالية ليعودوا في أكفان!!
ولكن أي كيفية تلك التي مارس بها هذا المعلم المجرم عقابه لهذا المسكين؟.. وأي جرم اقترفه الأخير واستوجب أن يدفع حياته ثمنا له؟.. وماذا فعل أهل الفقيد؟ وإدارة المدرسة؟ ومكتب التعليم بالمحلية؟ ونقابة المعلمين؟ ووزارة التربية والتعليم بشقيها الولائي والاتحادى؟
ماذا فعل المجتمع المحيط بالواقعة؟.. كلها بالضرورة أسئلة تحتاج لتوضيح يشفي غليلي ويعيد لي ثقتي في الضمير والقانون.
وهي قطعا ليست الواقعة الأولى.. ولن تكون الأخيرة.. ولكني لم أسمع أبدا بعقاب رادع أصاب مرتكبي مثل هذه الجرائم يكون سببا في حفظ الحقوق والأرواح.
رحم الله معلمي الزمن الرسالي الذين كنا نروغ من لقائهم في الطرقات.. وترتعد فرائصنا خوفا منهم ورهبة ولكن يسكننا حبنا لهم وتربطنا بهم وشائج الأمان والتوقير واليقين التام بأنهم حماتنا ورعاتنا.
الآن.. بعض المعلمين يتهاونون في أداء عملهم ويمتهنون هذه المهنة المقدسة مرغمين فيمارسونها (بقرف) غير راغبين في الابتكار أو الصبر.. طاقتهم للاحتمال ضعيفة.. ولا يعدو الأمر لديهم كونه واجبا ثقيلا يؤدونه من أجل الحصول على حفنة من الجنيهات لا تسمن!! فهل يمكن إعتبار أوضاعهم المزرية ومخصصاتهم الضعيفة وكدرهم، وإشكالاتهم الداخلية والخارجية مبررا كافية ليفرغوا غبنهم المخبوء في أجساد أبنائنا النحيلة بهذا القدر المميت؟
ثم ماذا عن تلك الفئة المتحرشة والمغتصبة.. وتلك التي تتبادل مع طلابها الأنخاب و(السفة).. وتلك التي تعمد لإغواء طالباتها؟.. أين الرقابة والتدريب والتقارير والتوجيه من كل ذلك؟
ألم يعد فينا رجل رشيد وإن كان معلما رساليا يضاهي سمو الأنبياء؟!
تلويح:
عزيزتي أم الطالب الفقيد وغيره من الضحايا.. أسال الله لكن الصبر والعوض.. ولكني أسألكن بالله ألا تتنازلن عن دمائهم البريئة الطاهرة.

اليوم التالي