مقالات متنوعة

دعوها سليمة


قبل 26 عاماً كنا في زيارة إلى إحدى المناطق الريفية ضمن مجموعة من الطلاب الجامعيين، في إطار برنامج تثقيفي توعوي يقوم به الطلاب بالتنسيق مع طالبات كلية التمريض العالي لمحاربة العادات الضارة وعلى رأسها الخفاض الفرعوني، وكنا نقيم الندوات والمحاضرات ونصطحب معنا الاختصاصيين في مجال الطب وعلماء النفس، كنا نعرف أن مهمتنا عسيرة وضيوف غير مرغوب فيهم في تلك المجتمعات ولكن مع ذلك كان لابد مما ليس منه بد…

أذكر أن أحد زملائنا كان يحاور زعيماً عشائرياً مؤثراً في محيطه بغية أن يتولى برنامج التغيير بنفسه بعد الإقناع لكونه صاحب ثقل في أهله وعشيرته ومهاب الجناب ومسموع الكلم.. طرق الرجل لحديث صاحبنا وأصغى إليه جيداً على نحو طمأنه بأنه اقتنع بما يقول ولما انتهى حديثه قال الرجل: (نعم التعليم)، فازداد صديقنا يقيناً بأن مهمته قد تكللت بالنجاح، ثم أردف بسؤال ساخر: (دا الاتعلمتو في الجامعة؟)، وزاد:(والله يا ولدي أنا نضمي معاك مو كتير لاكين بقول لك حاجة واحدة، أكان دي قرايتك حقة الجامعة أمش عود قرايتك تاني من سنة أولى، دي ما قراية دي قلة أدب ساكت)!.

استدعيت هذا المشهد بعد مرور أكثر من ربع قرن عندما استجبت لدعوة كريمة من أستاذ الأجيال والمربي العظيم الأستاذ محمد حمد الجراي لحضور إحدى فعاليات ورشة توعوية تدريبية امتدت لأسبوعين نظمتها منظمة “انتشار” الخيرية بمحلية الدندر بالتنسيق مع اليونسكو ووزارة الشئون الاجتماعية بالولاية ووقفت فيها على تجربة فريدة واستراتيجية جديدة تقضي بأن تتبنى المحتمعات المستهدفة نفسها محاربة العادات الضارة والإحاطة بأضرارها مع تركيز كامل على إيجابيات الفتاة السليمة، والحق أنني انبهرت بهذا الإنجاز الكبير خاصة وأنا أرى عدداً كبيراً من فتيات ونساء من 40 قرية بمحليتي سنار والدندر بمختلف الأعمار يقمن في معسكر لمدة أسبوعين بعيدا عن عائلاتهن وقراهن، وهذا في حد ذاته تطور كبير جداً إذ لم يكن مسموحاً لفتيات دون سن الزواج بالمبيت خارج المنزل إلا في حدود ضيقة جداً دعك من أن يتبنين محاربة الخفاض الفرعوني والتوعية بأضراره ..

وتقوم الفكرة ببساطة شديدة على الحوار المغلق بين مجموعات تتراوح ما بين 10 إلى 15 شخص بينهما المتزوجون من الجنسين والأب والأم والجد والجدة، والشاب والشابة وكل يحكي تجاربه مع هذه العادة الضارة، وقطعاً في هذه الحالة سيكون هناك إطار دلالي موحد لمعرفة صدى الرسالة التي وصلت للمتلقي وردة فعله ومدى تجاوبه وما إذا كان قد اقتنع بضمونها أم أن الأمر بحاجة إلى المزيد من الحوار.

عموماً في تقدري أن هذه التجربة والاستراتيجية الجديدة التي ترتكز على مفهوم أن المجتمعات المستهدفة بالتوعية والاستنارة هي التي تتبنى بنفسها عملية تغيير المفاهيم ومحاربة العادات الضارة هي ما يستحق الوقوف عنده وأعتقد أن هذا البرنامج قطع شوطاً كبيراً في مسيرة نجاحه وهو عمل في تقديري يستحق الدعم والمؤازرة من كل الجهات الرسمية والشعبية، وأخيراً أُزجي شكري للقائمين على هذا العمل الدكتور عماد مأمون والأستاذ زين العابدين وأجدد الشكر لأستاذي العملاق محمد حمد الجراي لإتاحة هذه السانحة للوقوف على عمل يستحق الدعم والمؤازرة.

أحمد يوسف التاي

الصيحة