منوعات

«الانشغال الدائم».. عندما تتحوَّل حياتنا إلى سباقٍ لا ينتهي


«أنا مشغول لدرجة لا تتخيلها»، «ليس لديّ وقتٌ متاح»، «من العمل إلى النوم ولا أفعل أي شيء آخر»، يردِّد الكثيرون هذه العبارات وهي أشبه ما يكون بالتفاخر في صورة شكوى، فمعظم الشعوب اليوم يسيطر على حياة أفرادها سمة «الانشغال الدائم»، وأصبح هناك اعتيادٌ على ذلك، لدرجة أنهم يشعرون بالذنب إذا لم يكونوا مشغولين.

ولكن لم يدرك هؤلاء الأشخاص في ظل سباقهم المحموم إلى جعل جدول أعمالهم أكثر ازدحامًا، أن «الانشغال الدائم» لا يعني بالضرورة التقدم على الآخرين، وليس دليلًا على الذكاء، بل أحيانًا يكون عقبة في طريق النجاح في العمل والعلاقات، وفي نهاية الأمر سنظلُّ بشرًا نحتاج إلى الوقت الكافي لنجلس مع من نحب، ونتحدَّث معهم عن أحوالنا بوتيرة هادئة دون تعجل بسبب كوننا مشغولين.

ما الذي استجدّ مع متغيرات العصر؟

كان البشر في العصور الماضية يعملون في مجالات الزراعة أو التصنيع، صحيح أن العمل كان منهكًا من الناحية الجسدية، لكنه كان يتم وفق حدودٍ مُعيَّنة، فلا يمكن حصاد المحصول قبل أن ينضج، أو إنتاج المزيد من المصنوعات إلا في حدود توافر موادِّها الخام التي تُصنع منها، ولكنَّنَا اليوم نعيش في «عالم بلا حدود» كما يعرِّفه المؤلف البريطاني «توني كرابي» في كتابه «مشغول: كيف تزدهر في عالم مبالغ فيه».

وتظهر ملامح ذلك العالم في الحياة اليومية التي نعيشها، فقد أصبح من الضروري متابعة المزيد من رسائل البريد الإلكتروني الواردة، والالتزام بمواعيد الكثير من الاجتماعات، والانتهاء من قائمة القراءة التي وضعتها، والوصول إلى أفكار جديدة تستحق التنفيذ، ومع وجود تكنولوجيا الهواتف الذكية، فذلك يعني أنك تستطيع بسهولة وضع قائمة من الأشياء لتفعلها في البيت، أو أثناء الاجازة، أو خلال ممارستك الرياضة.

وستكون النتيجة الحتمية لما سبق أن يسيطر عليك شعور بأنك غارق في المهام المطلوب منك الالتزام بتأديتها، وليس لديك متسع من الوقت، وتقع في مأزق أنك بطبيعتك البشرية محدود الإمكانيات، ولكنك في الوقت نفسه تحاول القيام بكميَّة أعمال غير محدودة، فتشعر بأنك مضغوط لتنجز كل هذه الأعمال سواءً في العمل أو في البيت، وهذا أمرٌ شديد الصعوبة سواءً من الناحية الحسابية فلا يمكن أن تزيد عدد ساعات اليوم عن 24 ساعة، أو من الناحية النفسية عندما تظلّ تراقب بتوتر مرور الدقائق مع شعورك بضغط الوقت، وهذا النُّوع من الوعي بالوقت يقودك عمليًا إلى أداءٍ أسوأ.

لا يصح تطبيق الإنتاجية على جميع نواحي الحياة

عندما يكون الشخص في انشغالٍ دائم، فإن حالته الذهنية تتأثر بذلك حتى خارج أوقات العمل، بحيث أنه عندما تتيح له الحياة فرصة قضاء ساعة أو ساعتين من الاستجمام، سيشعر بشكل تلقائي بأن هذا الوقت ينبغي أن يستفيد منه بطريقة منتجة أيضًا.

الكاتبة البلغارية «ماريا بوبوفا»
وتعلق الكاتبة البلغارية «ماريا بوبوفا» على ذلك بقولها: «أكثر الأشياء خبثاً هو الميل الذي ينتابنا لتطبيق الإنتاجية على مجالاتٍ في الحياة لا ينبغي أن تنطبق عليها، وهي بطبيعتها خالية من هذا المعيار»، ولذلك يجب علينا أن نعيد النظر إلى المواقف الحياتية التي نطبق عليها معايير الإنتاجية بشكل مخالف للمنطق.

وعند رجوعنا للتاريخ سنجد أن الوضع كان مختلفًا تمامًا، فقد كانت حرية العمل في السابق هي الرمز الأبرز للثراء والإنجاز والتميز الاجتماعي، ويصف عالم الاقتصاد الأمريكي «ثورستين فيبلين» أوقات الفراغ في القرن التاسع عشر بأنها وسام شرف.

صحتك هي المتضرر الأكبر من انشغالك الدائم

يؤدي «الانشغال الدائم» إلى زيادة تعرض الفرد للإجهاد الشديد، والذي ينتج عنه إفراز الجسم بمستويات عالية لهرمونات يطلق عليها مجموعة «القشرانيات السكرية»، والتي تلحق الضرر بالعديد من أجهزة الجسم، ويظهر ذلك من خلال العديد من المؤشرات وهي:

1- أصبح البحث عن مفاتيح سيارتك، ومحفظتك، ونظارتك، جزءًا من روتينك اليومي، وذلك بسبب زيادة مستوى هرمون «الكورتيزول» في جسمك، والذي يُفرز عند التعرض للتوتر، وعلميًا يؤثر هذا الهرمون على الذاكرة؛ لأنه يُستهلك في المشابك العصبية في القشرة خلف الجبهية المتعلقة بالذاكرة قصيرة المدى في الدماغ.

2- تغضب من أصغر الأخطاء التي يرتكبها الآخرون، والسر في ذلك هو أننا عندما نكون مرهقين تقل قدرة عقولنا على معالجة الأمور بشكل منطقي وهادئ، وبالتالي ستقل قدرتنا على التسامح مع الأخطاء، وبالإضافة إلى ذلك فإن نمط الحياة المليئة بالإجهاد تقلُّ فيه عدد ساعات النوم مما يؤدي إلى استنزاف هرمون «السيروتونين» والذي يلعب دورًا هامًا في تهدئتنا خلال الأوقات العصيبة.

3- تستيقظ كل يوم وأنت تشعر بالتَّعب بغض النظر عن عدد ساعات نومك، ويعد التعب في ساعات الصباح واحدًا من العلامات على أنك تبذل مجهودًا فوق طاقتك، وتذهب في نهاية اليوم إلى السرير وتغلق عينيك، ولكن عقلك ما زال منشغلًا بالمهام المتلاحقة التي تسابق الزمن من أجل القيام بها.

4- لا يمر أسبوع دون أن تعاني من صداعٍ رهيب يمتدًّ ألمه إلى الجزء الخلفي من رقبتك، ويعتبر الصداع الناتج عن التوتر من بين الأعراض الأكثر شيوعًا للإجهاد المزمن، لأن جزء من استجابة الجسم للإجهاد هو تقلص العضلات، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تشنج في عضلات الظهر والرقبة ومنطقة فروة الرأس ويزيد بذلك الإحساس بالصداع.

5- تشعر في معظم وقتك بالاستياء ولا تنجح في تحديد السبب بالضبط، وذلك يرجع إلى أن التعرض للإجهاد بكثرة يؤدي إلى التأثير في هرمونات الجسم وحدوث اضطرابات في كيمياء الدماغ، وهذا يفسر إصابة الأشخاص الذين يتعرضون إلى الضغوط بشكل دائم بالاكتئاب.

7 إرشادات تجعلك أقل انشغالًا وأكثر إنتاجية

لن يعود عليك الاستسلام لحالة «الانشغال الدائم» سوى بالمزيد من الأعباء، والتي ستؤدي بك إلى عيش حياة لا تستمتع بها كما يجب، ولذلك من الضروري أن تقوم بشكلٍ عاجل بتطبيق بعض الإرشادات التي تساعدك للخروج مما أنت فيه ومن أهمها:

1- تجنب استخدام كلمة «مشغول» بشكل متكرر عندما يسألك الآخرون عن حالك، واستبدلها بعبارات مثل: «أحاول التغلب على بعض العراقيل»، أو «هناك أفكار جديدة أحاول تنفيذها في أفضل صورة»، وذلك لأن ما نفكر به ونتحدث عنه باستمرار يبقى محفورًا في أذهاننا ويؤثر في تصرفاتنا، ولذلك فإنك إذا استخدمت كلمة «مشغول» سيكون حالك كذلك سواء بوعيك أو بشكل غير مقصود.

2- حدد لكل مهمة وقتًا محددًا تعمل فيه بتركيز على إنجازها، فالكثير من الأوقات تضيع نتيجة عدم وجود حدود واضحة للانتهاء من العمل الذي تقوم به والانتقال للذي يليه، وتعد إنتاجية ساعتين من العمل بتركيز أكبر من إنتاجية أربع ساعات وذهنك مشتت.

3- تذكر دائمًا أنه لن يكون بمقدورك القيام بجميع المهام المستهدفة، فمن الطبيعي أنه ستظل هناك مهام لم يسعفك الوقت للقيام بها نتيجة محدودية وقتك، لذلك لا ترهق نفسك بالشعور بالذنب، لأن هذا سينعكس عليك صحيًا بشكل سيء.

4- لا تتجاهل حاجتك إلى أوقات للراحة أثناء عملك، فهذا الوقت التي ستقضيه في التأمل أو المشي بعض الوقت خارج مكان العمل، سيجعلك أكثر إنتاجية، وأظهرت بعض الأبحاث أن الأشخاص يصلون إلى مستوى الإنتاجية المثالي عندما يأخذون فترات راحة قصيرة متعددة.

5- في بداية يومك قم بتجميع المهام الصغيرة وأعمل على القيام بها أولًا، وسينعكس ذلك عليك بشعورك بالإنجاز، وستقبل على بقية أعمال اليوم بنشاط، وتجنب أن تقيس مدى إنتاجيتك بعدد الأعمال الكبيرة التي انتهيت منها، حتى لا تُحبط.

6- قم بمراجعة الأنشطة التي تقوم بها في حياتك، وحدد ما إذا كنت قادرًا على التقليل من بعضها لزيادة التركيز في أنشطة أخرى، وإتاحة وقت إضافي لنفسك، فالأفضل أن تكون متقنًا لعدد قليل من الأشياء، بدلًا من أن يكون أداؤك متوسطًا في أشياء كثيرة.

7- أحرص على الفصل بشكل واضح بين العمل والمنزل، وأحذر أن تجعلك وسائل التكنولوجيا في حالة عمل دائم، فاليوم أصبح الكثير من الأشخاص نتيجة وجود الهواتف الذكية معهم يعملون إلى وقت متأخر من المنزل، بقيامهم بالرد على رسائل البريد الإلكتروني، أو متابعة سير العمل من خلال بعض التطبيقات.

ساسة بوست