عالمية

هذا هو الفرق بين هولاند وبوتين !


المصلحة العليا للدولة، التي جسدها ديغول ببراعة والتي يعبر عنها بغزارة ونبل أشهر ممثلي الفكر السياسي والفلسفي الفرنسي،

مثلها كمثل الواقعية السياسية عند البريطانيين والألمان والأمريكان حيث أنها تجبر صاحب القرار بالالتزام في سياسته الخارجية بمصلحة الدولة العليا وتستدعي تغليب المصلحة قبل تحكيم العاطفة. فكل اعتبار أخلاقي أو شخصي مردود ومرفوض لأنه يبعد الدولة عن أهدافها الأساسية والرئيسية. وإن لم نلتزم بما أوصي به مكيافلي في كتابه “الأمير” حول اصطدام وعيه كحاكم وضميره كفرد، فإنه بإمكاننا أن نعطي أكثر ثقة للتمييز الذي طرحه المفكر الألماني ماكس فيبر الذي يقوم على اختلاف “أخلاق المبادئ” و”أخلاق المسؤولية “.

السؤال المطروح هنا يتعلق بالسياسة الخارجية للسيد هولاند وأكثر من ذلك بالديبلوماسية الفرنسية التي تدار تحت رعايته، لاسيما في ما يخص الأزمة السورية والعلاقات الفرنسية الروسية؟ هل تركت مصالح الدولة العليا مكانها جانبا للمواقف الأخلاقية والمواعظ عوضا عن توخي الواقعية السياسية ومتطلبات الديبلوماسية التي حل محلها انجيل وعقدية حقوق الإنسان وقاموس النوايا الخيرة. هذه هي حقيقة الأمر في الأزمة الدبلوماسية بين فرانسوا هولاند وفلاديمير بوتين حول زيارة هذا الأخير لفرنسا.

وقد تم الترتيب لهذه الزيارة منذ أشهر، بمناسبة تدشين المركز الثقافي الروسي الجديد في باريس والتي تمت برمجتها ليوم 19 أكتوبر، ولكن تم إلغاؤها حسب المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الذي أعلن بسخرية يوم الثلاثاء 11 أكتوبر الماضي أن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيأتي عندما يشعر الرئيس هولاند بأكثر راحة وسوف ننتظر تلك اللحظة ! ” في الفصل الثاني من مسرحية في انتظار غودو الشهيرة، يجعل صموئيل بيكيت من فلاديمير رجلا “سعيدا ونشوانا”!

كان يمكن أن تكون الزيارة المرتقبة فرصة جيدة لمناقشة مواضيع التعاون بين البلدين. روسيا شريك صعب فعلا وقوي باعتراف الجميع ولكنها من الناحية الاقتصادية والجيوسياسية ,شريك لا مفر من التعامل معه. فبعد أن فهم رجب طيب أردوغان أهمية موسكو في الشرق الأوسط، وهو الذي كان منذ أقل من ثلاثة أشهر في صراع مفتوح مع روسيا، وقع اتفاقية استراتيجية مع بوتين بتكلفة تقدر بأكثر من عشرة مليارات دولار، وهي مشروع خط أنابيب TurkStream، المتمثل في انجاز انبوبين للغاز بسعة 16 مليار متر مكعب تحت البحر الأسود قبل حلول العام 2019.

مستأجر قصر الإليزيه ليس هو الذي ألغى زيارة فلاديمير بوتين إلى فرنسا بل قررها رئيس الكرملين ولسبب وجيه ألا وهو أن فرانسوا هولاند كان يعتقد أنه يتعامل مع حاكم مستبد من “أفريقيا الفرنسية” وأنه بإمكانه أن يفرض تعليماته على قيصر روسيا المنتخب. وقبل يوم من ذلك، وفي إشارة الى تفاقم توتر العلاقات بين البلدين صرح وزير الخارجية الفرنسي جان مارك أيروا بخصوص الاشتباكات في حلب بين الجيش السوري والإرهابيين الاسلاميين، بأنه يمكن أن يحاكم القادة السوريين والروس بتهمة ارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية ! وفي نفس الاندفاع والتعويذة الساخطة قدمت فرنسا مشروع قرار لمجلس الأمن لدى للأمم المتحدة تم وضعه في الدرج لأن روسيا استخدمت على الفور حقها في الفيتو.

وقد تساءلت بموضوعية المحللة والمكلفة بمهمة لدى وزارة الدفاع الفرنسية كارولين قلاتيروس في مقالة نشرتها صحيفة لوفيغارو يوم 11 أكتوبر 2016 “هل هي إذا جولة جديدة من التهافت الأعمى والتفكير السحري أم أنها مواقف اعتباطية وخطيرة تسعى من خلالها فرنسا خدمة مصالح واشنطن لا غير”.

فعلا وفي غياب رؤية استراتيجية وجيوسياسية واضحة ترتقي الى مستوى القضايا المصيرية أصبح الأمر يتعلق تحديدا بسياسة صماء وعمياء وغير مسموعة جعلت من فرنسا مسخرة أمام الأمم المتحدة وحتى في نظر القوة الأمريكية التي تعتزم الحكومة الفرنسية خدمتها بإخلاص ووفاء، مواقف مهتزة تجعل من فرنسا العدو الرسمي للأصدقاء المحتملين كروسيا العظمى وتعزلها عن منطقة الشرق الأوسط، أين كانت في السابق صوتا مسموعا ودولة ذات سيادة .

والأكثر خطورة واستغرابا في هذه السياسة الخارجية التي لا تفتقر للمكيافيلية البدائية هي الشكوك التي تثيرها الحكومة الاشتراكية حول إرادتها الفعلية في حربها الشاملة ضد الارهاب والجماعات الاسلامية، مهما اختلفت مسمياتها المتعددة سواء بداعش أو بتنظيم القاعدة أو بجبهة النصرة الملقبة أخيرا بفتح الشام. فعلى عكس رئيس الدبلوماسية الفرنسية السابق لوران فابيوس الذي يعتبر أن “الأسد لا يستحق أن يكون على الأرض” وأن “جبهة النصرة تقوم بعمل جيد” فإن فلاديمير بوتين يتمتع بالثبات والصرامة عندما قال عن الإرهابيين الشيشان: “سنلاحقهم حتى في المراحيض”، وقد وعد بذلك في سبتمبر 1999، عندما كان لا يزال رئيسا لوزراء بوريس يلتسين.

إن حقوق الإنسان المتكيفة والمتغيرة حسب الأجندات، وعظات الإسلام “المعتدل”، والثنائيات المبسطة التي تحصر الصراع الجيوسياسي رئيسيا في مواجهة بين قوى الخير (القاعدة ومشتقاتها) وقوى الشر ( بشار الأسد) لا يمكن لها اليوم أن تحجب التحالف الموضوعي بين فرنسا ابنة الأنوار الفولتارية وجحافل البرابرة من الظلامية الإسلاماوية. وعلى عكس الدعاية الإعلامية الغربية، فإن المأساة في حلب ليست مواجهة بين “طاغية يقتل شعبه” بين جنود الحرية الذين لا يطمحون إلا لتحقيق الديمقراطية، ولكنه صراع بين دولة قانونية وشرعية تسعى إلى تحرير آخر شبر من أراضيها المغتصبة والخاضعة إلى اليوم لاستعمار جحافل المرتزقة الزاحفة من الشرق والغرب والمنتمية لنفس المجموعات الجهادية التي ضربت فرنسا بأبشع العمليات الارهابية. نعم إنه صراع دام بين دولة معترف بها دوليا من قبل الأمم المتحدة، ساعية لاستعادة الجزء الأخير من أراضيها التي تقع تحت سيطرة “الإسلاميين المعتدلين”، الذين جاؤوا من جميع أنحاء العالم والذين يستخدمون المدنيين كدروع بشرية في حلب التي يسيطرون عليها منذ عام 2012 ، والذين لا تعني بالنسبة اليهم حياة الإنسان، سواء كان شيعيا أو سنيا أو مسيحيا أكثر من قيمة الذبابة.

يعتبر المفكر الخالد جوليان فرويند، أن جوهر السياسة هو في الفصل بين الصديق والعدو ومعاملة هذا وذالك بمنطق القوة أو السلم وليس بغريزة الحب أو الكراهية. حتى و إن كان الامر متأخرا فعلى فرنسا الهولاندية أن تختار بين أصدقائها وأعدائها، أو بتعبير أدق أن تصنف بعقلانية ورصانة عدوها وصديقها. لا يمكننا اليوم محاربة الإرهاب الإسلاموي في مالي، أو حتى أكثر من ذلك في فرنسا نفسها، وفي الوقت نفسه تسليح الذراع الإسلامي للإرهاب في سوريا تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان. وأضيف أن ” ليس هناك ما هو أكثر دقة من أسلوب الدعاية الحديثة، كما ليس هناك ما هو أكثر قبحا من مضمون تصريحاتها، التي تدل على تجاهل واحتقار كامل للحقيقة الدامغة”. هكذا كتب الفيلسوف ألكسندر كويري.

وان كان الموقف “الاخلاقي” للديبلوماسية الفرنسية “مقنع” في بعض الأحيان فقد أصبح اليوم وبعد الخطأ الديبلوماسي الأخير تجاه روسيا هزيلا وغير صالح للترويج . اللحظة التاريخية اليوم والموقف الآن هو للسياسة الواقعية، فإن كان نيكولا ساركوزي يجيد ممارسته على الرغم من خطيئته الكبرى في ليبيا التي تقاسي بسببه الفوضى والإرهاب وعواقب الهجرة.

كان يمكن لفرنسا أن توفق بين مصالحها الحيوية، ودعوتها العالمية للدفاع عن حقوق الإنسان والقيم الإنسانية التي هي نبيلة فعلا وتستحق أن يدافع عنها في كل مكان من العالم … بما في ذلك دويلة قطر! ولكن بسبب موقفها ” لأخلاقي” ، خسرت فرنسا على جميع المستويات سواء كان في المجال الاقتصادي أو السياسي أو الأمني وحتى الأخلاقي.

بالفعل ضحت فرنسا بمصالحها الاقتصادية، بسبب الأزمة الروسية-الأوكرانية، ولا سيما عن طريق التنازل عن تسليم فرقاطات ميسترال، والتي كلفتها أكثر من 1.16 مليار €، وكذلك بسبب الحصار على روسيا ردا على العقوبات الغربية ضد موسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية، خسرت الزراعة الفرنسية أكثر من ملياري اورو.

أما بالنسبة للأخلاق والالتزام فهما صفتان تشوهتا بسبب تورط فرنسا مع الإرهابيين “المعتدلين”، الذين قاموا “بعمل جيد” في سوريا فقد انتقلتا من باريس الى موسكو! اعترفنا بذلك أم لا، فان روسيا بوتين هي التي تدافع، في الملف السوري، عن قيم العالم الغربي و كذلك عن المصالح الاقتصادية الجيوسياسية الخاصة بها.

نعلم تاريخيا أن الامبراطورة كاترين الثانية كانت على علاقة تراسل مع فولتير واشترت بعد وفاته مكتبته التي وضعتها في مدينة سانت بطرسبرغ ، فهل تأثر فلاديمير بوتين بفكر التنوير الفرنسي أكثر من القادة الفرنسيين!

في الأخير وإن يصدم البعض ويغضب البعض الآخر فإن الحقيقة الدامغة والوحيدة اليوم أن روسيا هي التي تدافع منذ السنوات الخمس الأخيرة عن احترام الشرعية الدولية وعن القيم الغربية مثل الحرية والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم الإسلامي، على عكس الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا وبريطانيا الذين يدعمون بطريقة مباشرة او غير مباشرة الفاشيين الإسلاميين اولئك الذين يقبعون على بعد سنوات ضوئية من تلك القيم السامية.

المازري الحداد

رئيس المركز الدولي للدراسات الجيوسياسية والاستشرافية بباريس

روسيا اليوم