رأي ومقالات

وداعا روضتي الغناء


اخر يوم للتعسيلة .. نومة خفيفة صباحية …مثل تلك الزيادة البسيطة التي تضيفها لكوب الشاي ..فتكمل لك الكيف .. كنت امارسها كل يوم ..بعد الغلبة الصباحية ..الشاي وساندوتشات الفطور للعيال ….ابني الأكبر ..يسألني عن مكان نظارته ..كل الاطفال يعتقدون ان الامهات يمتلكن أعين مركبة تنظر في جميع الاتجاهات ..أهز رأسي نافية وانا أصب له الشاي ..يأتي الصغير وهو يرتدي جوارب مختلفة الألوان ..انظر اليه بدهشة .(.احمد ..انت شايف الالوان بتاعة الشرابات اللابسها دي؟ )..يهز كتفيه قائلا (ما حنك)..قبل ان أستطرد ..تاتي ابنتي لتسألني قائلة (يا ماما ..الجاكيت دا احلى ولا الكنت لابساهو لما مشينا لي ناس خالتو سامية احسن؟؟)…ارفع بصري اليها ..واقول بالية (دا احسن) تبتسم وتسارع لاكمال لبسها ..وانا في الحقيقة لم اعرف أي جاكيت تقصد ..ولم استوعب أي سامية في الساميات تعني.؟؟..
التعسيلة الصغيرة هذه .كانت تعدل مزاجي اليومي ..رغم انني كنت اجد صعوبة في النهوض بعدها ..واكاد اجزم ان نصف الساعة تلك تمر كاللحظة ..فيرن المنبه بعد اقل من ثانية ..ابتسم وانا اغني (الغريبة الساعة جنبك تبدو أقصر من دقيقة)..لا ادري من كان يخاطب الشاعر ولكني أقصد البطانية …ابدأ في التجهيز للخروج للعمل …اصل الى مكتبي ..وافتح النافذة لاستنشق الهواء المشبع برائحة الطعمية ..تصل الى مسامعي اصوات سعد الفكهاني وموسى الفران ..اراقب ستات الكسرة ..وبائعي الخضار …وزبائن المطعم المجاور .
كل هذه التفاصيل ..ان لها ان تنتهي ..فقد كتب علي مفارقة مكتبي القديم ..الى المباني الجديدة في سوبا ..مكان جديد ..وجوه مختلفة..كذلك اصبح لزاما علي النهوض باكرا للحاق بالترحيل ..والا ..كان أمشي الميناء البري ..والحق البصات السفرية للجزيرة …وانا انقل أشيائي من المكتب القديم ..اعتصرني قلبي ..و أنا أترك ذكريات كثيرة بين هذه الجدران .. قصاصات صغيرة كتبت عليها مذكرات باسماء ومواعيد ..ارقام هواتف .. نشرات دورية علمية قديمة ….وجدت علبة دواء مخفف للصداع ..تذكرت ان احد الزملاء زارني في بدايات عهدي بالمكتب ..وتركها عندي قائلا ..(دي الهدايا المفيدة ..كل ما يجيك صداع تدعي لي )…وقد كان ..ما أكثر ما استخدمت تلك الاقراص حتى نفدت عن اخرها ..وبقيت العلبة شاهدة على صدقه…الكرسي القديم الذي اجلس عليه ..طالما اشتكيت منه ..اجدني اتوق الى حمله معي ..اضحك من نفسي مرة اخرى ..هل لو اخذته ..ساخذ كل هذه التفاصيل ؟؟ كل هذه الضجة؟؟ ..النافذة التي طالما وقفت عندها ناظرة الى الشارع ..المكيف العتيق الذي يصدر ازيزا مزعجا ..حتى صار مألوفا لدرجة انني افتقدته عندما تم اصلاحه ..الباب الذي كنت اتركه مواربا ..ارحل تاركة كل شئ خلفي
تفاجئنا اشياء في انفسنا ..مثل هذا الحنين للاماكن .. ..كنت احسبها مجرد حوائط باردة ..لكنني اليوم احسست انها من لحم ودم ..شاركتني لحظات واودعتها ذكريات ..اجد نفسي هنا في المكان الجديد ..حيث الهدوء القاتل ….. ..الاثاث الذي تفوح منه رائحة الطلاء ..كان يلمع في ضوء الشمس القادم من النافذة المفتوحة على الفضاء الواسع …فجأة فقد ت كل شئ ..نومة الصباح ..أصدقاء الطريق ..أصوات الباعة ..ورائحة الطعمية ..ضجة السيارات ..حين وافقت على الانتقال ..لم اكن أعتقد انني سأغير نمط حياة اعتدتها لسنوات ..وجوه الفتها ..تفاصيل عشتها ..كل تلك الاشياء ذهبت مع الريح …كيف يستطيع البعض التنقل من مكان لاخر ؟؟ ..كيف يترك احدهم بعضه ثم يرحل ؟؟ ..كيف يدير البعض ظهره ويمضي لا يبالي …كيف يطيق بعضهم الوداع ؟؟ … (دكتورة ..معانا ..ولا مع الخيانة ) ..ضاحكة تمازحني زميلتي ..تقصد الفطور ..لازلنا نستكشف الاماكن .. ….بادلتها الابتسام .. وقلت (لا.. معاكم ..اعملوا حسابي في البوش )…ايييه دنيا ..

د. ناهد قرناص