منى ابوزيد

إحلال وإبدال ..!


“الرجال يتزوجون بدافع التعب، والنساء بدافع الفضول، وكلاهما يخيب أمله” .. أوسكار وايلد ..!
زمان عندما كان الزمن زين (والخروف بميتين) كانت طموحات البنات التي تطرحها أغانيهن الخاصة بشأن العريس المنتظر تنحصر في مساحة المليون ميل مربع .. وبالتالي كانت بكائياتهن التي تصب جام غضبها على وسائل النقل والسفر تنحصر في “القطار” وسيلة النقل المحلية، المحورية، المشؤومة، التي يتحقق بقيامها الفراق (إنت شلته جيبه يا القطار) ..!
فالأصل في ثقافة ذلك الزمن أن ينتمي العريس إلى نفس التضاريس والمناخ .. وأن تفضل الفتاة الاستقرار والمحليَّة كصفات جاذبة في عريسها المنتظر (أنا ما دايرة السفر .. لكن بس نفذ القدر) في ظل استقرار وتوازن الطبقية الاقتصادية الحميدة لم تكن الفتاة السودانية النمطية تفكر بعريس من خارج طبقتها الاجتماعية ..!

لكن انحسار وتحور مسارب الرزق جعل الحبيب يرفع من سقف طموحاته المهنية ومن لونها وطعمها أيضاً .. فيحمل حقيبته ميمماً وجهه شطر تضاريس محلية أخرى، من أجل وضع مادي واجتماعي أفضل .. مغادراً بلد الحبيبة على متن ذلك القطار بالطبع ..!
الأمر الذي جعل الفتيات ـ بدورهن ـ يخلعن على شخصية القطار صفات شريرة .. وهاك يا مداعاة (القطر الشالك إنت .. يتكسر حتة حتة) .. (القطر الشال معاوية .. يتكسر زاوية زاوية) .. ثم تطورت النظرة إلى فضاءات الرزق وأساليب كسب العيش واتسع هامش التجريب مع تقلص مساحات الطبقة المتوسطة المكتفية، القانعة، فأصبح السفر إلى خارج حدود المليون ميل مربع – والاغتراب خارج الوطن – هو أول وأولى خيارات الشاب الساعي إلى تحقيق أكبر قدر من الدخل .. في أسرع وقت .. وبأقل قدر من المعاناة ..!
حينها امتشقت فكرة الاغتراب كحل سحري لجميع المشاكل الاقتصادية .. وتفاقمت أشواق البنات نحو العريس المغترب .. وتمزقت الصورة النمطية لفارس الأحلام المحلي الذي لا تتعدى حدود رحلاته، وصولاته وجولاته في طلب الرزق، حدود المحلية .. ثم حدث الإحلال والإبدال التدريجي وتشكلت معالم الصورة الجديدة .. الزاهية .. الواعدة .. داخل إطار العريس المنتظر ..!

فأصبح فارس الأحلام المثالي مغترب تظهر علامات عزه المتنامي في ملبس ومأكل أسرته .. وتفاصيل بيت أهله المتميزة التي لا تخطئها العين .. (الثلاجة الكبيرة الملونة) .. (البتوجاز ستة عيون) .. (البرندات المقفلة بنوافذ زجاجية مشجرة وذكية عوضاً عن الحديد الأمرد البليد) .. (الطلاء الجديد) .. (الملايات الأمريكية الفاخرة مخرمة ومطرزة) .. (العربة الكوريلا المغطاة في الحوش إلى حين أجازة أخرى .. أو المحولة إلى تاكسي جديد أنيق يقوده الأب المعاشي أو الشقيق العاطل لرفع مستوى دخل الأسرة) .. (صور الأيادي المطبوعة على مدخل البيت بدماء الذبائح القانية كناية عن أن في البيت حاجة أو حاج حديث العهد .. قام بدفع نفقات حجته ابن الأسرة المغترب) .. إلخ ..!
كل هذه التحولات الوافدة، المبهرة في مستوى معيشة الأسرة ذات الدخل المحدود سابقاً .. حولت بوصلة أشواق البنات التي لم تعد تتجه نحو العريس الذي (حجز القطر للقومة)، بل نحو المغترب الذي (جاب السمح) و(سوا السمح) .. فغنت له الخالة والجارة، و(ساق عروسه بالطيارة) ..!

بارتفاع معدلات كاريزما الاغتراب في المجتمع السوداني تسللت إلى أغاني البنات مفردات جديدة بفعل الثقافات الحديثة الوافدة (بالطيَّارة) .. فالحياة المرفهة في الغربة هي مرادف لفكرة الراحة والعز .. و(العنكشة) و(الكشكشة) بالذهب .. والثياب الفخمة .. والصرف الباذخ في الأجازات .. فتسللت إلى أغاني البنات أسماء جديدة لعواصم عربية يعود المغتربون فيها إلى (ناس الحلة) محملون بالغالي والنفيس ..!
ثم فجأة – وعلى حين غرة – توقف نمو كاريزما مغتربي (ليبيا والعراق والخليج) بفعل عوامل التعرية الاقتصادية .. فعلاً سقف الطموح نحو السفر .. وحدث الانفتاح الأكبر على عوالم جديدة .. وفي آخر عقد من القرن الماضي تراجعت شعبية مغترب الخليج في أغاني البنات إلى مرتبة أدنى مفسحة المجال والساحة لمغترب من نوع آخر .. مغترب جديد أدخل مفهوم (الهجرة) إلى المجتمع السوداني .. فتسللت مفرادت الشتات (الدياسبورا) مثل اللوتري والجواز والجنسية إلى أغاني البنات ..!

هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة