عثمان ميرغني

نقد ذاتي.. (كتمة) صحفية!!


فاضت صفحات الصحف والمجموعات الأثيرية بالسخرية من مداخلة منسوبة للدكتور عايدة حسين.. نصحت فيها النساء بالرقص للمحافظة على صحتهن.. والحقيقة لله من (أول نظرة) وقبل أن أطَّلع على تفاصيل الحدث أدركت أنّ ثمة خطأً فادحاً في النقل!!

ولكني لا ألوم الزملاء الصحفيين، فـ(الكتمة) التي نُعايشها جرّاء الشلل الكامل في المشهد السياسي.. وتيبس عروق العمل العام لكأنما هناك اخطار باقتراب يوم القيامة.. تجعل الصحافة تحك ظفر النملة (إن ثبت أن لها ظفراً) للحصول على (موضوع)..

وهي – بالمناسبة – ليست المرة الأولى التي تقع فيها الصحافة في حفرة النص خارج السياق.. فقبل عدة أشهر نُسبت تصريحات لمسؤول في محلية أمدرمان عن تقدم بيئي أوصل معايير القياس إلى معدل ثلاث (باعوضات) في الحجرة.. وعلى الفور انفتحت شلالات السخرية عبر الصفحات وأثير الإنترنت بمُختلف وسائطه..

في الحالتين اُنتزعت التصريحات خارج سياقها الذي يجب أن تفهم فيه..

ففي الحالة الثانية.. المسؤول يتحدث عن معايير قياس لا عن حقيقة فعلية.. تماماً مثلما نقول عن ماكينة السيارة إنّها سعة (ثلاثة حصان) فلا يعني ذلك أننا لو فتحنا الماكينة سنجد الأحصنة الثلاثة… فهي مُجرّد وحدة قياس.. وهو عندما استخدم عبارة (ثلاث باعوضات للغرفة) لا يعني القبض على هذا العدد داخل الغرفة.. وإذا قلنا إنّ الكثافة السكانية في السودان بمعدل (16) شخصاً في الكيلومتر المربع، فلا يعني هذا أنّنا سنجد في كل كيلومتر مربع في الصحراء خيمة بها (16) شخصاً.. فهي مُجرّد مَعايير للقياس..

في حالة الدكتورة عايدة لا يختلف اثنان أنّ الموسيقى تستخدم في العلاج.. وكلنا يذكر كيف أن فنانين سُودانيين بعينهم اشتهروا بالمساهمة في علاج المرضى النفسيين بالغناء في المصحات العقلية.. والرقص هو انسجامٌ مع الموسيقى ورياضة روحية تظهر سافرة عند الصوفية في حلقات ذكرهم.. أبدع في تصويرها شاعرنا المجذوب في قصيدته الأشهر (ليلة المولد)، إذ يرسم صورة الطرب والرقص العلاجي فيقول:

وعلا فوق صدى الطبل الكرير
كل جسم جدول فيه خرير
ومشى في حلقة الذكر فتور
لحظة يذهل فيها الجسم والروح تنير

وفي تقديري أن (المرض) أي مرض.. هو مجرد خروج عن (إيقاع العافية).. والرقص هو محاولة لاستعادة الإيقاع (الرزمRhythm ).. يقول الله سبحانه وتعالى في صورة (التين) (ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم..) التقويم هنا لا يقصد به الجسم والقوام كما ذهب بعض المفسرين.. التقويم يعني (الزمن).. والإنسان ما هو إلاّ منظومات زمنية متراكبة دقيقة إعجازية.. والمرض – أي مرض – هو خللٌ في (إيقاع) التقويم!!

وقد يستعيد (الإيقاع) بالعلاج التركيبي الطبي أو الروحي أو النفسي أو بالموسيقى أو حتى بمجرد السفر إلى موطن يتّسق مع إيقاع وجدانه..

لم تقل الدكتورة ما يستوجب تسونامي السخرية.. بل هو حديث في سياقه العام قيِّمٌ وحصيفٌ.. ولكن!!

ولكنها (الكتمة)!! كما قال شاعرنا أزهري محمد علي:

نحن المن دواعي الغفلة…
سمينا الحقيقة مصيبة…
كلنا في كمين (الكتمة)!!…

التيار